هي سهلة بسيطة جميلة رائقة، وليست كما هو شائع عنها صعبة مُعقدة متعبة..
هي سهلة بسيطة جميلة رائقة عندما يرتبط فيها الإنسان بالله تعالى، فيعمل ويجتمع بنظر خالص ليوم آخر يكون فيه الحساب والجزاء، وأمَّا النتائج في الدنيا فليست ميزانًا دقيقًا للصحة والخطأ، وذلك لأنَّنا نرى جِمَالًا قد كثرت سكاكينها، وضباعًا أمست في العيون أُسودًا!
يقول الله سبحانه وتعالى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، وبالتالي فإنَّ الكون مع الله تعالى علَّةٌ تامَّة للهداية والسعادة، وفي المقابل نقف على مجموعة من الأحاديث المعصومة تبين بوضوح أنَّ المنشغل بالناس وشهوات الدنيا فإنَّه يُوكلُ لما انشغل به، فعن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
“يُؤمر برجال إلى النار..، إلى أن قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياءُ، ما كان حالُكُم؟
قالوا: كنَّا نعمل لغير الله، فقيل لنا: خُذوا ثوابكم ممن عملتم له”.
في هذه الحياة، عادة ما تُنازعنا النفس إلى اتِّخاذ تفاعلاتها ميزانًا لقياس الصح والخطأ، والنجاح والفشل، والصالح والطالح، وأمَّا محور هذا الميزان فهو الناس وما يقولون وما هم عليه، ولأنَّ ممارسة الحوار مع الجماهير أمر قد يكون صعبًا أو متعذِّرًا، وقع الخيار على تحديد الميزان في مدى الانتشار وامتلاك الأرضية الجماهيرية الأكبر والسيطرة على الشارع، وبهذه الاعتبارات اعتُمِدت الإحصاءات الكمية، فيُرَوَّجُ للكتاب -مثلًا- بعبارة: (الكتاب الذي بِيعت منه مليون نسخة)، وهكذا..
استحكتْ هذه الثقافة في المجتمعات، فاضطُر الإنسانُ إلى الإبداع في طرق وأساليب الإقناع وكسب الآخرين و(برمجة) الجماهير، فالمهم هو الانتشار والسيطرة.
أتخطَّرُ حادثةً لأحد المفكرين الكبار، والذي كان من الانتشار ما جعل اسمه لامعًا وحضوره وازنًا، وفي لحظة لم تكن في الحسبان انقلبت عليه الأيام، وإذا بجماهير الناس تقف على باب بيته لترميه بكتبه رجمًا رجمًا، وبعد أن كان بينهم صاحب الوجه والكلمة، أصبح بين ليلة وضحاها ميدان للسكاكين.
سواءٌ كان هو المخطئ أم الناس، ولكن في نهاية المطاف هم الذي رفعوه، وهم اختاروا رميه في طامورة من طوامير التاريخ، ولا أدري إن كان يومٌ نراه فيه لامعًا متألقًا من جديد.
نفس هذا الشخص، وإن كان ما مرَّ به مؤلمًا على أيَّة حال، فهو مرتاح منشرح الصدر ما لم يكن الناس عنده هم الميزان، وكان ميزانه هو الله تعالى ورضاه، وإلَّا فقد مضى بحسرات من شأنها إحالة المؤمن كافرًا!
تتميَّزُ الحياة الدنيا بخارطة اجتماعية غاية في التعقيد والدقة، ولا وجود فيها لفرد مستقل في حساباته عن غيره من البشر، بل عن غيره من سائر الموجودات، فنجاح فلان أو فشله أو أي شيء يتعلق به، هو في الواقع مرتبط مع غيره على مختلف الآماد، ففرحُ الأمِّ بنجاح ولدها في المدرسة تترتب عليه مواقف، والمواقف تُنتج غيرها وتتراكم عليها أخرى، وهكذا.. بل لو أنَّ قِطًّا صدمته سيَّارة فإنَّ ذلك من الممكن أن يرسم خارطة خاصة تتغير فيها الأحوال وتتبدل التوجهات!
الارتباطُ بموازين البشر هو في الواقع مراهنة على الثبات فوق رمال متحركة بلَّاعة، ومهما كانت هادئة، فإنَّ تحركها يعني (نقطة، وبداية صفحة.. لا سطر)..
هنا آية قرآنية عظيمة، وكل آياته عزَّ وجلَّ عِظام.. يقول تبارك ذكره: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)..
قد يتَّسع مفهوم العبادة فيشمل ما نحن فيه أيضًا، ويتَّضح ذلك من دعوة الحكيم الناس إلى أن يكونوا ربَّانيين، ولا سبيل لذلك بغير التجرُّد العقلائي عن هذه الدنيا وموازينها المُوَرِّطة، ثُمَّ الارتباط الكامل بموازين السماء ورضى الإله جلَّ في علاه، وهذا في الواقع هو قول الوجدان، فضلًا عن العقل الذي لا يتخلف عن النقل أبدًا، وفيه (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)، وأيضًا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، فعلى الإنسان أن يعمل ويبذل قصارى جهده في تأدية وظيفته الشرعية ومهامه الخلافية (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، ولكن تبقى مسألة التغيير خاضعة لإرادة الناس وطباعهم الثقافية ومستويات وعيهم، وعلى العاقل المشتغل بالفكر الصالح أن يستحضر مشاهد نبي الله نوح (عليه السلام) مع قومه (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا * قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالا).
السيد محمد علي العلوي
20 فبراير 2016 ميلادية