احتِمَالاتُ “مَّا” في: “لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ”

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

(احتِمَالاتُ “مَّا” في: “لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:

(يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

النظرُ في معنى (ما)، ويدور الأمر بين كونها نافية أو موصولة أو مصدرية، وقد اشتهر بين المفسرين أنَّها نافية، وقال بعضٌ بأنَّها موصولة وآخرون بأنَّها مصدرية.

قال السيد الطباطبائي في الميزان:

وقوله: (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) تعليل للإرسالوالتنزيل، و”ما” نافية، والجملة صفة لقوله: “قومًا”، والمعنى إنَّماأرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوِّف قومًا لم يُنذر آباؤهم فهمغافلون.

والمراد بالقوم إنْ كان هو قريش ومن يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهمالأدنون؛ فإنَّ الأبعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله،وقد أرسل إلى العرب رسلٌ آخرون كهود وصالح وشعيب (عليهماالسلام)، وإنْ كان المراد جميع الناس المعاصرين نظرًا إلى عمومالرسالة فكذلك أيضًا؛ فآخر رسول معروف بالرسالة قبله (صلى اللهعليه وآله وسلم) هو عيسى (عليه السلام) وبينهما زمان الفترة.

واعلم أنَّ ما ذكرناه في تركيب الآيات هو الذي يسبق منها إلى الفهموقد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها، ومن أرادهافليراجع المطوَّلات“.

وقال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في الأمثل (الهامش):

أعطى المفسرون احتمالات مختلفة حول كون (ما) نافيةً أو غير ذلك، أغلبهم قالوا بأنَّها نافية، وقد اعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا“.

وقال الطبرسي في مجمع البيان:

الأجود أن يكون (ما) نافية وتكون الجملة في موضع نصب لأنَّهاصفة قوم ويجوز أن يكون (ما) حرفا موصولًا مصدريًّا على تقدير لتنذر قومًا أُنذِر آباؤهم“.

أمَّا الميرزا المشهدي فقد قال في كنز الدقائق:

مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ”: قومًا غير منذر آباءهم، يعني آباءهم الأقربين، لتطاول مدَّة الفترة“.

وقال ابنُ إدريس الحلِّي في منتخب البيان:

لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ”، معناه: إنَّه أنزل القرآن ليُخوِّف به من معاصي الله قومًا لم يُنذَّر آباؤهم.

وقيل: أراد به قريشًا أنذروا بنبوة محمَّد.

 وفي معناه أيضًا قولان:

أحدهما: قال عكرمة: معناه لِتُنذر قومًا مثل الذي أُنذرَ آباؤهم.

الثاني: قال قتادة: معناه لِتُنذر قومًا لم تُنذر آباؤهم قبلهم، يعني في زمان الفترة بين عيسى ومحمَّد (عليهما السلام)“.

ويساوي السيد محمَّد تقي المدرِّسي بين البناء على كون (ما) موصولة وبين كونها (نافية)، فقد قال في مِنْ هُدى القرآن:

وقد فسَّر أغلبُ المفسِّرين هذه الآية بأنَّ أولئك القوم لم يُنذر آباؤهم من قبل، مما يُخالف قوله سبحانه: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وهنا تفسير آخر يجعل حرف (ما) موصولة فيكون معناه تقريبًا: (لِتُنذر قومًا بما أنذر آباؤهم من العذاب). وسواءً أخذنا بهذا التفسير أو ذاك فإنَّ من المعلوم أنَّ قوم الرسول لم يُنذروا من قبله بهذا المعنى، ونجد هذا المعنى في آية أخرى: (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ)“.

محاولة:

يكشف قوله تعالى (فَهُمْ غَافِلُونَ) عن حال الآباء، وقد قال أحمدُ بن فارس في مقاييس اللغة:

غفل: الغين والفاء واللام أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على ترك الشيء سهوًا، وربَّما كان عن عمد. من ذلك: غَفَلْتُ عن الشيء غفلَةً وغُفُولًا، وذلك إذا تركتَه ساهيًا، وأغفلتُه، إذا تركتَه على ذِكرٍ منك له؛ ويقولون لكلِّ ما لا مَعْلَمَ له: غَفْلٌ، كأنَّه غُفِلَ عنه، فيقولون: أرضٌ غُفْلٌ: لا عَلَم بها، وناقةٌ غُفْلٌ: لا سِمَةَ عليها، ورجُلٌ غُفْلٌ: لم يُجرِّب الأمور“.

وعليه، فلا يُقال غفلة عن غير موجود، بل أصل موردها هو عدم الانتباه أو الإعراض عن ما هو موجود بالفعل.

فهل كان الغفلُ عن الإنذار أو عن أصل التوحيد؟

يجوزُ الحملُ على الثاني، ولَكِن بتكلُّفِ بحث الفطرة ومبادئ الرجوع والإذعان لها، في حين أنَّ الأول (الإنذار) مُصرَّحٌ به في الآية الكريمة، ولا مسوِّغ للإعراض عنه وطلب الثاني، خصوصًا بعد بحث العبائر القرآنية التالية.

وعليه، فالظاهر أنَّ (ما) في قوله تعالى (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) مصدريَّة ظرفية، والمصدر المؤول (ما أُنذِر) منصوب على الظرفية متعلِّق بـ(تُنذر)، والتقدير: (مدَّة إنذارهم)، وهذه المُدَّة غير قابلة للتقسيم من حيث عدد السنوات ومظروفاتها وما قيل عن الآباء الأبعدين والأقربين، بل هي وحدة تاريخية، فحتَّى لو عُدِمُ المُنذِّرُ الشاخص قبل بعثَةِ النبي (صلى الله عليه وآله)، فهذا لا يعني الخلو من الإنذار، بل هو حاضر قائم في الوحدة التاريخية المعلومة، بل وبتراكم التجارب الرسالية من لدن آدم (عليه السلام) إلى ما قبل البعثة النبوية المباركة، وهذا ما كانوا غافلين عنه.

وهذا لا يعارض البناء على أنَّها موصولة، بل يمكن الجمع المعنوي، فيكون عندنا مقام (كما أُنذر آباؤهم)، ومقام الغفلة بالرغم من (مدَّة إنذارهم)، والأول هو ما أفاده الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: “لِتُنذر القوم الذين أنت فيهم كما أُنذر آباؤهم” (الكافي للكليني ج1 ص432).

وبالتفاتة النبيه، لن تخفى الفوائد العظيمة لو قام البناء على مصدريَّة (ما)؛ إذ أنَّ حال الآباء لا تأثير له على واجب أداء الرسالة الأخص، والوظيفة الشرعية في التبليغ الأعم، بل وحتَّى لو كانوا (لَقَدْحَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)، فالقصد هو وصول القضية بتمام أبعادها إلى (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).

ومنه تعالى أستمد العون والسداد بشفاعة سادتي وسادة العباد محمَّد وآله سبل الرشاد.

السيد محمد علي العلوي
26 من ذي الحجَّة 1436 هجريَّة

10 أكتوبر 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.