لما اختلف الناس..!! تهمة (التناقض) نموذجًا

بواسطة Admin
0 تعليق

الطبيب الحاذق الماهر عالِمٌ في تخصُّصه، ولكِنَّه وبطبيعة الحال قد يكون جاهلًا في علوم وفنون أخرى، ومثله صاحب أي تخصُّص؛ فالإحاطة التامَّة الكاملة لن تخرج عن غير الله تعالى لأحدٍ من خلقه، ولذلك فالجهل ليس ممَّا يُزعِجُ العقلاء، بل هم يسعون للتعرُّف على العناوين التي يجهلونها كمقدِّمة لتنُّجب الخوض فيها إلَّا على سبيل التعلُّم بما يرفع النقص، وهكذا يتكامل الإنسان.

جاء عن عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: “لو سكت الجاهِلُ ما اختلفَ الناسُ”.

فلا ينبغي للخبير في الفروسية وفنونها الإفتاء في المسرح وفنونه، ما لم يكن مطَّلعًا مؤهَّلًا للخوض في مضماره، وإن حَدَثَ وفعل، فهذا من شأنه التسبُّب في خلق الكثير من المشاكل عندَّ عامة الناس عندَّما يأخذون بقوله المغلوط ربَّما احترامًا لمقامه أو لقوَّة لسانه، وكذلك عندَّ أهل المسرح إذا ما تصدَّى أحدُهم لردِّ قول خبير الفروسية بمنطِّق لا يفهمه!

انتَّشرت في مجتمعنا ظاهرة غاية في الإزعاج، تبرز في الغالب بين المتحاورين أو المتواجهين في ساحات العمل بمختلف أنواعه، وأعني ظاهرة السعي لإضعاف الآخر أو إسكاته وتوجيه الأنظار إلى نقاط ضعفه، وحينما تتحقَّق مثل هذه العناوين، يشعر فاعلُها بنشوة النصر وعلو العكب في ميادين الحوار، وهذا مؤسف جدًّا.

هنا أطرح مثالًا:

من الطبيعي أن تتغير قناعات الشخص فردًا وجماعة، ومن الطبيعي أن تتبدَّل مواقفه ورؤاه، فالإنسانُ كائنٌ يكتسب المعارف في كلِّ لحظة وحين، وهذا يستتبعه توسُّع، أو ربَّما ضيق في أفقه الفكري، فينتُّج التغير بطبيعة الحال.

هذا التغير لا علاقة له بـ(التناقض)؛ إذ أنَّه يدور حول الوجود والعدم بشرط الاتِّحاد في أمور ثمانية، والاختلاف في ثلاثة، فأمَّا الأولى، وتسمَّى (الوحدات الثمان) فهي:

1- الموضوع: ومثاله أنَّ اللون الأسود نفسه يجب أن يكون موضوعًا في القضيتين المتقابلتين.

2- المحول: وهو الحكم، فلا يصحُّ الحكم على الأسود بالوجود في الطرف الأوَّل، وباللمعان في الطرف الثاني.

3- الزمان: وهو الوقت الذي ينسب فيه المحول إلى الموضوع، فليس من التناقض في شيء أن يعرض الإشراق على الشمس نهارًا وينتفي عنها ليلًا.

4- المكان: فقد يقال عن أرض العراق –مثلًا- أنَّها مخصبة، ثمَّ يقال أنَّها غير مخصبة، والقصد أن الخصوبة عارضة على ريفها ومعدومة في مُدُنِها، ولكِنَّ التناقض يستقر بادِّعاء العروض على نفس الأرض في نفس الوقت وفي ذات المحل منها.

5- الكلُّ والجزء: كما المثال السابق، فقولنا عن العراق (بعضه) أنَّه مخصب، لا يناقض النفي عن (كلِّه).

6- الشرط: فلا تناقض بين القول بالشيء مع الشرط، وبينه القول بعدمه؛ فالأول مشروط، والشرط داخل في موضوع تحقُّقه.

7- القوة والفعل: لا تناقض بين القول بموت زيد وبعدم موته في نفس الوقت؛ فالأول موت بالقوة (أي قابليته لعروض الموت)والثاني عدمه بالفعل.

8- الإضافة: لو أضيفت (أي بالنسبة) الخمسة إلى العشرة، قيل عنها (نِصف)، ولو أضيفت (أي بالنسبة) إلى التسعة، فهي ليست (بنصف).

وأمَّا الثانية، فلا بد من الاختلاف في الكيف والكم والجهة، وأُعرِضُ هنا عن التمثيل لها؛ فمفرداتها تحتاج إلى بعض المقدَّمات والتعريف ببعض المصطلحات التي قد لا يناسبها المقام.

وعلى كلٍّ، فقد اتَّضح أنَّ مسألة التناقض ليست من تلك التعابير التي يسوغ إطلاقها هكذا بلا مراعاة لضوابطها، وقد يقال:
ربَّما يوصَفُ موقِفٌ بالتَّناقض تجوُّزًا.

الجواب: للتجوُّز شروط أيضًا، ومن أهمِّها وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والآخر الذي يستعمل فيه لفظ الأول على نحو المجاز، ومفردة (التناقض) تقع محورًا أصيلًا في المعرفة؛ فقانونها هو الأولي الأوحد الذي تدور عليه المعارف وتقوم عليه البراهين، فلا مناسبة ولا اشتراك إلَّا بتوفُّر الشروط، وحينها يكون الاستعمال حقيقيًّا.

الحاصل –في نظري- أنَّ التوصيف بـ(التناقض) يأتي غالبًا لإضعاف الطرف المقابل وإظهاره هزيلًا وهِنًا قاصرًا في مستوى التعقُّل والفكر، ولذلك نجد الحوارات كثيرًا ما تتحول من الموضوعية إلى التنازع والجدل مع إطلاق مفردات مثل (أنت متناقض)!

حارب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) المشركين، وأيضًا صالحهم، وحدَّث المعصومون (عليهم السلام) صراحة في موارد وتقيَّة في موارد أخرى، وهنا اختلفت الظروف فاختلفت المواقف، فكيف بالإنسان العادي غير المعصوم إذا تغيرت قناعاته زيادة على تغيُّر الظروف؟

نعم، قد يقال بالتناقض ويقصد به (النقض)، أي أنَّ القول أو الفعل أو الموقف اللاحق (نقض) السابق، وهذا طبيعي –كما تقدم-، بل هو المطلوب في الفروع والعناوين الطارئة، بل حتى الأصول قد تتغير عند اكتشاف الخطأ في اعتبارها أصولًا، وهذا من قبيل الناسخ والمنسوخ في القرآن العظيم.

فنحن في حاجة ماسَّة للهدوء والانفتاح في التعامل مع بعضنا البعض، وهذا يقتضي الحذرَ كلَّ الحذرِ من حصر أنفسنا في زوايا متوهمة، نجعلها حقائق ونبني عليها فندخل مع الآخرين في نزاعات لا تستند إلى العلمية والموضوعية ولو في أدنى مستوياتها.

قد يُصِرُّ البعضُ على ما هم عليه من خطأ في التعبير وفي استعمال المفردات المناسبة، خصوصًا تلك التي تدور عليها رحى البحوث المنطقية والفلسفية، وفي الواقع لن يجدِ حينها الكلام ولن يثمر البيان، ولكنَّه وفي جميع الحالات يبقى الرقيب عتيدًا، ويبقى للكلمة أثر البناء أو الهدم، ومن الخطير التهاون في التعابير والاستخفاف بضوابط الطرح العلمي الموضوعي.

لم أبالغ على الإطلاق في طرحي لهذا الموضوع، فالتحليل يكشف المكونات، ولو قرَّر القارئ الكريم التدقيق في خلافاتنا، لوجد الكثير منها يرجع إلى زوايا متوهمة حشرنا أنفسنا بين أضلاعها وانغلاقنا على أفكار غير متعقلة، ومضينا في صراعات وخلق جبهات باستمرار، والسبب في الغالب لا يخرج عن (اللسان) وسوء البيان، والتهاون في التعابير والمصطلحات.

شيء من الهدوء أيُّها الأكارم..

السيد محمد علي العلوي
27 شوَّال 1436 هجرية

13 أغسطس 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.