بعض الرؤى والأفكار، باختصار تأتي تحت عناوين مُشْغِلَة.. أضعها في سطور لعلَّ الله تعالى يُشَرِّفُهَا فتكون في ضمن أضوية تقود لطريق خير وصلاح..
- المَضَائِفُ ومُشْكِلُ الإسْرَافِ:
لستُ مُتابِعًا دقيقًا لِمقدَارِ الأطعمة والمشروبات التي تأخذ طريقها للقمامة من على طاولات المضائف مع نهاية كل إحياءٍ لذكرى أهل البيت (عليهم السلام) في مدن وقرى البحرين، غير إنَّ ضجَّةً قد تكون إشارة على وجود حالة حقيقية من الإسراف يقع فيها المؤمنون في مضائفهم الكريمة..
وهنا كَلِمةٌ:
إذا كانَ الإسرافُ غائبًا في غير المضائف، فهذا أمرٌ، ولكنَّ الواضح أنَّنا نعيشه ثقافة في بيوتنا وولائمنا ومشترياتنا، بل وحتى في كلامنا ومجادلاتنا، فالقضية ثقافةٌ إنْ لم تكن قد استَحكَمتْ فهي في طريقها نحو الاستِحكَام، وما المضائفُ –إنْ صَحَّ فعلًا ما يقال بشأنها- إلا إحدى مظاهرها.. يعني: مصداق فقط!
إنْ أردنا مُعَالجَةَ الأمرِ، فالصحيح أنْ تتوجه الجُهُودُ لمُعالجَةِ الإسراف كحالة ثقافية تُسيطِرُ على المُجتمع، وإذا ما تمَّ ذلك، تَبِعَهُ تصحيِحٌ في وضعِ المضائِف بشكل طبيعي، وأمَّا إذا مَا استمرَّ الاندفاع النقدي نحو خصوص المضائف، ففي الغالب لن تكون النتائج إلا على عكس ما يُرتجى.
- المرجَعيَّةُ والجماهِيرُ:
عِندَنَا مجْمُوعَةٌ مِنَ الفُقهَاءِ المجتهدين يتمتعون بغزارةٍ عِلميَّةٍ تُثيرُ العُقُولَ بتَمَكُّن ورسُوخٍ كبيرين، وقد كان مُسْتَقى هذه الحالة العلمية، وأقصد بالمستقى أهل البيت (عليهم السلام)، قريبًا من الناس، فالمجتمعات كانت صغيرة، والتواصل المجتمعي فيها هَيِّنًا بطبيعة الحال، ولكِنَّنا اليوم نعيش توسُّعًا في حالات التباعد الاجتماعي بشكل عام، وأكثر في خصوص ما بين مراجع الدين وجماهير المؤمنين.
هذه مشكلة؛ فالرافِدُ مُنقَطِعُ القُوَّةِ عن مَصَبِّهِ، ويشهد بذلك البعد الثقافي والفكري للجماهير عن مراجعهم من الفقهاء المجتهدين..
جَاءَ الحَلُّ وبترتيب مباشر من الأئمة (عليهم السلام)، في علماء الدين والثِقَاتِ من المؤمنين؛ فقد شكَّلَتْ طبقاتُهم حلقات وصلٍ متناغمة بين طرفي المعادلة.. الأئمة (عليهم السلام) وجماهير المؤمنين.
استمرتْ هذه الحالة الاستراتيجية حتى ظهرَ بروزٌ وتقدُّم لمنابر المجالس الإيحيائية لذكرى أهل البيت (عليهم السلام) على غيرها من حلقات وصلٍ مفترضة بين المرجعية الدينية والمؤمنين..
ومن هنا بدأتْ المشكلة..
لا شك في أنَّ للمنبر الدور الرائد في المحافظة على الدين عقيدة وفقهًا وأخلاقًا وأدبًا، غير أنَّ الإشكال وقع مع مرور الوقت وتطاول الأيام، وذلك في ضعف نهوضه بالمُهِمَّة التي أصبح من شرائطها الاقتضائية أن يكون الخطيب على درجة عالية، بل وعالية جدًّا من العلم، وقد لا أبالغ لو قلتُ: بأكثر مِمَّا كان مطلوبًا من الأعاظم أمثال زرارة وبن مسلم!
عِنْدَنَا خَلَلٌ فِي (الواسِطَةِ)، ورُبَّما عِندَنَا خللٌ في الوقوف على حَقِيقَةِ الخَلَلِ وخارِطَةِ التعقِيدِ فيه!
ليت رواد المنابر من سادتنا الخطباء لا يرضون لأنفسهم أقل من مراهقة الاجتهاد، إن لم يكن الاجتهاد صريحًا، فأنتم الرهان أيُّها الأفاضل أصحاب الكرامة الحسينية.
- الشَعائِرُ وَ(واويلاه) و(أويلاه):
هناك حَدٌّ متعارفٌ ومُتَّفَقٌ عليه من الشعائر الحسينية على وجه الخصوص، التي ضمن أغراضها إظهار المستوى الحقيقي لتقوى القلوب، ومن جهة أخرى فإنَّها تحافظ على نوعِ صِلَةٍ بين الإنسان والطريق المفترض سلوكه لتحصيل تقوى القلوب، فالقضية الشعائرية راجعة في بُعْدٍ مُهِمٍّ من أبعادِها إلى موقع المؤمن من الدين عقيدةً وفقهًا وأخلاقًا، ثُمَّ إنَّها وفي بعد آخر لا يقل أهمية عن سابقه، تحافظ على توازن المؤمن في مواجهة التحديات التي يواجهها في الحياة الدنيا، وخصوصًا تلك التي من نوع الاضطهاد والقمع والاستبداد وما نحوها.
يبدو وبحسب بعض الدراسات الاجتماعية المعتبرة، أنَّ علاقةَ الإنسان بالشعائر تقوى كلَّما استشعر خطرًا يهدد دينه أو تدينه، ولا يقصدون بالأخطار تلك التهديدات الخارجية فقط، بل وحتى الإقصاء العملي للمؤمن من هذا الحزب أو ذاك التيار أو تلك المؤسسة، وما شابه مِمَّا يقتضي ابتعاده عن التعمق في الدين، فإنَّه يلجأ إلى الشعائر كحصانة له ضد الانفلات التام، وكُلَّما تمكنت منه أنواع التهديدات، كُلَّما ازداد تعلقه بالشعائر ممارسة وتحديثًا، فهي الآن هويته التي يقاتل دون فقدانها.
من هنا، قد نفهم بشكلٍ أكثر وضوحًا ازدياد مساحة الفعاليات الشعائرية مَعَ كُلِّ تصاعد في مظاهر الضدِّ، أو ما تُتَصَورُ ضِدًّا.
ما نلاحظه اليوم، أنَّ كل فريق يأتي بما يسوغ موقفه من فتاوى فقهية شرعية واضحة، وتتكرر مع تجدد المناسبات الإحيائية، وكُلَّما صَعَّدَ هذا الطرف، قابله الطرف الآخر بالتصعِيد أيضًا، حتى أمست القضية قضية (كسر عظم) كما يعبرون، والحال أنَّ عظام المجتمع تتعرض للتفتيت دون التفات من كبرائنا إلى أنَّ معالجة الأمر لا يمكن أن تكون إلا بفهم الأبعاد الاجتماعية والنفسية والثقافية، وفي أيِّ اتجاه أُريِدَ للشعائِر أن تسلك، فإنَّ ذلك مقتضى صناعة الواقع الاجتماعي والنفسي والثقافي، وإلَّا فالبشرى لن تخرج عن التصعيد من الجانبين.
- بين الكتاب والعلم:
هنا مُشكِلَةٌ، قد تكون عظيمةً..
في المدارس وغيرها من مختلف المؤسسات التعليمية، فإنَّنا نَدْرُسُ الكِتَابَ.. عين الكتاب، ثم ننتقل منه لدراسة كتاب آخر أكثر من سابقه توسعًا ورُبَّما أجود لُغَةً، وهذا من شأنهِ أن يُخَرجَ علماء مجيدين ضابطين للكتب ومناقشة ما جاء فيها من آراء، ورُبَّما إبداع آراء جديدة.. هذا جيد، ولَكِنَّ المطلوب اليوم أمر مختلف.
نحتاج في هذا العصر إلى علماء ومفكرين يبدعون في العلوم ويبدعون علومًا جديدة، وهذا –بحسب ما أتصور- لا تنتجه منهجية دراسة الكتاب، ولكنها من مقتضيات دراسة العلم من خلال الكتاب.. تأمل جيدًا..
عندما يدرس الطالب كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظهر (قُدِّسَ سِرُّهُ) مثلًا، فمن المفترض أن يدرس علم المنطق من خلال هذا الكتاب وبحسب سعته، لا أن يدرس علم المنطق فيه.
بكل أمانة، أرجو أن تكون هذه الفكرة قد وصلت بشكل جيد صحيح إلى القارئ الكريم، فالقضية مُهِمَّةٌ وتحتاج إلى هِمَمٍ، وحسبنا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في منهجية العمل الرسالي: “بعث فيهم رسله وواتر إلأيهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول”.
السيد محمد علي العلوي
17 صفر 1436 هجرية
11 ديسمبر 2014 ميلادية