قد تكونُ في واقع الأمر وحقيقته غاية في الدناءة والسُخْفِ والخِسَّةِ، ولكنَّها (قناعات)، فهل كونها (قناعات) يفرض قبولها؟
لا أتحدَّث عن صِحَّة أو خطأ ما أحمِلُه أو ما يحمِلُه الآخر من قناعات، ولكنَّني أتحدَّث عنها بما هي قناعات مع قطع النظر عن أي اعتبار أو حيثية أخرى، والإنسان في ذلك على قسمين:
الأول: أن يكون صاحِبُ القناعة أعمى تمامًا عن صحة غير قناعته، فهو يراها الحق تمامًا، وبالتالي فالآخر عنده باطل.
الثاني: أن يفتح المجال أمام القناعة الأخرى لتصحِّح قناعته، فهو يُرجِّحُ صِحَةَ ما يحمل، ولا يمنع صحة ما يحمل الآخر.
أطرح مثالًا يدفع بالفكرة إلى واجهة الأذهان:
في كربلاء..
كان الحسين (عليه السلام) وفي كُلِّ مكان هو الحق المطلق تمامًا، ومن يحيد عنه فهو باطل بلا شك ولا شبه بمقدار ما يحيد، وقد يكون معذورًا إذا ما ثبت جهله بالحسين (عليه السلام)، غير إنَّ جهله ذاك لا يغيِّر من الواقع شيئًا، وإنَّما الكلام حينها في حساب الله تعالى معه، والمقام هنا ليس مقامه.
هناك في كربلاء، نقول بأنَّ المُقابِل للحسين (عليه السلام) باطلٌ فاسدٌ بلا كلام.. وهناك في كربلاء نقول عن كُلِّ من نصر الحسين (عليه السلام): فزتَ وربِّ الكعبة.
الحقُّ هناك بيِّنٌ بالحسين (عليه السلام)، والباطل بيِّنٌ بضرورة التقابل.
أمَّا اليوم فالموقف ليس هو موقف الإمام الحسين (عليه السلام)؛ ولكنَّه مبني على قراءة غير المعصوم للحسين (عليه السلام)، وهذه القراءة قد تكون صائبة تمامًا وقد تكون باطلة تمامًا، وقد يكون فيها من الصواب شيئ ومن الباطل شيئ، ولكنَّ السؤال يبقى:
كيف أعرف أنَّ قراءتي صائبة وقراءتك باطلة؟
لا يمكن الانكشاف التام لغير المعصوم (عليه السلام)، والادِّعاء من غيره باطل، وحتَّى في حالات القطع، فالقطع لا يعني ادِّعاء الانكشاف التام، ولكنَّه انكشاف بالقدر الذي يُسَوِّغ للقاطع العمل وفق قطعه ويكون به معذورًا لو انكشف بعدئذ أنَّه كان مخطئًا.
الآن..
عندَّما أتحرَّك بقناعاتي ويتحرَّك الآخر بقناعاته فهذا أمر طبيعي جِدًّا، وعندَّما أستغرب قناعات غيري لِشِدَّة وضوح بطلانها عندي، فهذا أيضًا طبيعي، ولكنَّ القضية في أنَّ حاملها يراها صحيحة حَقَّه، ويستغرب قناعاتي لشدة بطلانها عنده، ولذلك فالكلام يقع في: كيفية التعامل مع قناعات الآخرين على اعتبارها قناعات مع قطع النظر عن أي حيثية أخرى؟
في نظري إنَّ هذه المشكلة من أمَّهات المشاكل التي طالما أزَّمتْ العلاقات الإنسانية في المجتمع؛ فهي لا تتوقف على مجرد الفرز الإقصائي، ولكنَّها تتجاوز ذلك إلى الضرب المباشر في العلاقات الرحمية والنسبية في مجتمع يقوم عليها منذ القدم، بل هو مجتمع يدين بدين يهتم بتثبيتها وصيانتها.
ما أعتقده عِلاجًا لهذه المشكلة (المُعَتَّقة) أن يُتْقِنَ الإنسانُ في مجتمعنا المهارات الحكيمة في إبراز ما يحمل من قناعات، وأن يبقى متحفزًا دائمًا لتصحيحها وربَّما التخلِّي عنها لمصلحة ما هو أكثر صحة وصوابية، وفي تعامله مع قناعات الآخرين فهو في الواقع لا يملك أكثر من مناقشتها، وكلَّما كان موضوعيًا هادئًا كلَّما ازدادت فرص التصحيح والتعديل للطرفين، وكلَّما كان حادًّا أو مستهزءًا كلَّما فُتِحَتْ الأبواب أمام العزة لتأخذ الطرفين أو أحدها بالإثم!
في الحالة الأولى تظهر الروحية العلمية الجميلة للإنسان في تعاطيه مع القناعات الأخرى، فهي روحيَّةُ بناءٍ وتكاملٍ، وأمَّا في الثانية فيبدو لي أنَّ الأمر تحكمه نفسيَّةٌ تُخفي ضعفها بإثارة زوبعات حادَّة تارة واستهزائية تارة أخرى، وأمَّا الضعف فهو عن فهم طبيعة الإنسان، ومشكلة هذا أنه لا يريد معالجة ضعفه، بل يهرب من مجرد المواجهة بالتفنن في ضرب الآخر والاستهزاء به واقصائه.
لهذا الآخر موقف مضاد في الغالب، فهو أيضًا وإن كان على معرفة بطبيعة القناعات، إلا أنَّ شدة الضغط وتعاظم الاحتقان يؤدي به إلى مواجهة الضربة بضربة والسخرية بسخرية، فالقضية أصبحت أقرب إلى العداء والاستعداء!
والنتيجة: مجتمع يَسْتَنْزِفُ نفسه بنفسه، ويُعيِنُ عليها دون جُهْدٍ مِنْ عَدوِّه!
دعوني أتناول الأمر من جانب آخر..
اختلفتُ في قناعاتي مع شخص ما، وهذا الاختلاف مرتبط موضوعًا بالمجتمع، وأنا أقطع بصحة ما أحمل إلى مستوى 99%، و1% احتمال أن يكون الآخر على حق، وبالبناء على هذه النسبة الفاقعة بدأتُ بمهاجتمه والتعريض به وما نحو ذلك، ومن مبرراتي: إن السكوت عنه وعن أمثاله يُضرُّ بالناس ويضيع المجتمع.
تصمرتْ أيامي وأيامه، وأقبلنا أنا وهو على ربِّ العزة في يوم الحساب، وإذا بنسبته تطرح نسبتي أرضًا وتسحقها تحت كلمة الحق!!
انكشف الأمر لي وله وقام الحساب، وإذا بـ 99% التي كنت أتغنى بها وأطرب لها، انقلبت نارًا عليَّ تتقد، وماذا عن واحده؟ انقلب حقًّا 100% وزاد عليها ما أنزلتُ به من ضرر في الدنيا!
إن ما نثيره من تأزيمات ثقافية والتهابات فكرية يُنتِّجُ نارين، نارًا تحرق المجتمع وأخرى تحرق يوم القيامة من أوقدها في الدنيا، فحتى لو كنتُ مصيبًا وتحولتْ 99% إلى 100%، فهذا غير مُنكشِف لا لي ولا للطرف الآخر الذي لا يزال متمسكًا برأيه بناءًا على قناعاته.
ولذلك أقول: إنَّ هذه الحياة الدنيا وعلى مستوى القناعات لا ينبغي أن تكون دارَ تنزاع وتخاصم، بل من المفترض أن يجعلها الإنسان منتدى كونيًا ضخمًا للتفاهم والتحاور وبلورة الأفكار وممارسة التعقلات على طول الخط.
تعالوا لنتسائل:
ما الذي أنتجته لنا الصراعات والتأزيمات؟
وما الذي من الممكن أن تُنتِّجه لنا الحوارات الموضوعية بعقول إبداعية تؤمن وتتحمل مسؤولية الخلافة الإلهية في الأرض؟
أكرِّرُها ثلاثًا أذكِّرُ بها نفسي:
(وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
(وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
(وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
من الواضح أنَّ الدعوة ليست إلى ترك القناعات الأخرى والاستسلام أمام ما نراه باطلًا صريحًا كما هو حال الطواغيت وأمثالهم، ولكنَّها في كيفية التعاطي وأسس المواجهة..
لا أدعو إلى احترام كُلِّ فكر، ولكنَّ الذي أرمي إليه هو احترام مناهج التعامل مع مطلق الأفكار الآخرى وخصوصًا فيما بين أبناء الولاية المُقدَّسة.
علينا أن نحبِّب الآخرين في الحوار والمناقشة بموضوعية وهدوء، كما ومن أهم الثقافات التي نحتاج إلى تجنبها بدقة فائقة، ثقافة الاستعداء، فلنحذرها.. إنها مخالِبُ نِسر بأنياب سبُعٍ تمزق جسد المجتمع بلا رحمة..
فلنحي الإنسان في داخلنا.
السيد محمد علي العلوي
غرة صفر 1436 هجرية
24 نوفمبر 2014 ميلادية