لا شك في أن أظهار العالم لعلمه واجب في موارد أشار المعصومون (عليهم السلام) إلى مفاهيمها، فقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) عن الصادقين (عليهما السلام): “إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهِرَ علمه، فإن لم يفعل سُلِبَ نور الإيمان”.
يزخر العالم الشيعي بعلماء أفذاذ يُظهرون ما يحملون من علم في الموارد الصحيحة، ويتركون الناس يختارون ويشخصون في الموارد المناسبة، وهذا من جليل ما يتمتمعون به من حكمة وثِقل، وإنَّنا عندما نريد فهم الموقف الشرعي للعالِم تجاه ظاهرة معينة في المجتمع، فمما ينبغي لنا فهمه أولًا، طبيعة الظاهرة وعنوانها في الشرع، ثم علينا الفحص في ظرفها الموضوعي من مختلف الجهات، فلربما كان موقف العالِم سببًا لفتنة أشدُّ من إعلانه لرأي شرعي معين، وقد يكون الإعلان مقدمة لتراجع الناس عن تمسكهم ببعض العناوين العقائدية المهمة أو ماشابه.
وعلى أية حال، فإنَّ موقف العالِم لا ينبغي أن يُباشِرَ الاهتمام بالحكم الشرعي دون مراعاة للحكمة وحُسن التبليغ.
تَحَدَّثَ بعضُ الفضلاء في الآونة الأخيرة عن (الرأي الشرعي) في ما عُرِفَ عند الشيعة عمومًا ونسائهم على وجه الخصوص بـ(السفرة)، وهي أن تقوم المرأة بالنذر مُقَدِّمَةً بين يدي نذرها أحد المعصومين (عليهم السلام) أو مواليهم والصالحين مثل الخضر (عليه السلام) وأم البنين (عليها السلام)، ثم إنها تقوم بإعداد سفرة تتخذ في الغالب اللون الأخضر لبساطها وبعض مكوناتها، وتتقوم بالفواكه والماء وما تجود به القائمة عليها (صاحبة النذر)، ثم إنها تدعو قارئة التعزية (الملَّاية) لقراءة بعض المراثي بنية التقرب إلى الله تعالى وقضاء الحوائج.
في الواقع أن الكثير من النساء -وبحسب ما ينقلن ويروي أزواجهن- قُضيتْ حوائجهن وتيسرت أمورهن مع أو بعد إقامة (السفرة)، ولا عجب في ذلك على الإطلاق، فكرامة المعصومين (عليهم السلام) ومن يواليهم عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، ثم إنَّ مثل هذه الأمور التي لا ترجع على المجتمع بثقافات فاسدة أو مُضِلَة، ولذلك فمن الجيد استثمارها في ترسيخ العقيدة وتمتينها.
ونأخذ في الاعتبار أن الأصل في الأشياء (الحلية)، وإنما تطرأ الأحكام الشرعية الأخرى بناءًا على ثبوت عنوان يستدعيها، كما لو أن مثل هذه (السفرة) اعتُبِرتْ (من الدين)، وهذا إحداث حرام؛ إذ أن (البدعة) هي الإحداث في الدين.
قال السيد المرتضى (قدس سِرُّه) في البدعة: “ الزيادة في الدِّين أو النُّقصان منه، من غير إسنادٍ إلى الدِّين”.
وقال السيد محسن الأمين (قدس سِرُّه): “إدخال ما ليس من الدين في الدين، كإباحة مُحرّم، أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب، أو ندبه.. أو نحو ذلك، سواءً كانت ( البدعة ) في القرون الثلاثة أو بعدها، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له”.
يبدو أن الراجح هو كون هذه الأمور (السفرة) وامثالها من القضايا العرفية والتقاليد التي اعتادها المجتمع، وبالتالي فهي تأخذ أحكامها من ما تُعَنْونُ به دوافع نفس الممارسة، فلو كانت (السفرة) لنذر صحيح، فإقامتها حينها أمر واجب، وإن كان من باب إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) فهو مستحب، وكذا التوسل وما نحوه، أما في نفسها فالأصل حاكم.
نعم، قد تطرأ الحرمة إذا ما خالط هذا العمل حرامٌ مثل الإسراف والتبذير وما شابه، وحينها فالتوجيه يكون للتهذيب والتصحيح، لا للتحريم، وإلا فهذا الأخير هو (البدعة)، فتأمل جَيِّدًا.
نقطة أخيرة..
يقال بأنَّ هذه (العادة) أو ذاك (التقليد) لم يكن عندنا، ولَكِنَّه مستورد من القوقاز أو الهندوس أو غير ذلك!!
لا أدري ما هو المقصود بمثل هذه الإلقاءات، ولا أفهم الضرر من كون عمل هنا يشبهه عمل هناك، أو أن عادة هنا تماثلها عادة هناك!!
القضية راجعة إلى الشرع، فإن كان لا يُحَرِّم العمل الكذائي، فليكن عندها من عادات هذه الملة أو تلك، إلا أن يكون القيام به تَشَبُّهًا بالكفار، فالحرمة حينها من هذا الباب، وربما من غيره، ولكنَّه ليس لأن الغير يقوم به.
ثم إنَّ الأصالة للعمومات والإطلاقات، لا لنفس العمل إلا بدليل.
وعلى أية حال، فإنَّ (السفرة) إن لم تنفع وسيلةً، فلا انعكاسات ثقافية سلبية لها على المجتمع، وبالتالي فالإنشغال بالتصدي للمهم من الأمور لا شك في أولويته، بل وقد يكون الإنشغال والإشغال بمثل موضوع (السفرة) على عكس ما يرتجى منه، فلنتحرى الحذر.
السيد محمد علي العلوي
4 من ذي الحجة 1435 هجرية
29 سبتمبر 2014 ميلادية