قَلَّدَ زيدٌ بكرًا بعد أن اطمئن لعلميته وأعلميته، ومعنى ذلك أن يلتزم زيدٌ بفقهيات بكر دون الحاجة إلى سؤال أو تتبع لدليل إلا من باب العلم بالشيء والارتقاء في مدارج العلم والمعرفة، كما وأن معنى هذا التقليد أن لا يعتني زيدٌ بآراء الفقهاء الآخرين غير مرجع تقليده إلا من نفس الباب السالف، وهذا محل اتفاق الطائفة فقهاء ومن دونهم، بل وهذا مما ميز الفقه الشيعي وساهم في صياغة شخصيته الثقافية على أسس التعددية المؤطرة بإطار الأدلة الأربعة، وربما كان أيضاً من أبرز أسباب اتخاذ الشيعة منحى المعارضة الصريحة لمناهج الاستبداد والأحادية الفكرية.
إن لهذه التعددية المرجعية الدور الأبرز في تجنيب التشيع البيع في الأسواق العالمية للذمم والضمائر، فالمستهدف وبحكم التعددية المرجعية ليس واحداً وبالتالي فإن قراءته صعبة جداً إن لم تكن متعذرة، وبذلك أحكمت القوة الوجودية للتشيع على مر الزمان إلى أن ظفر الشيطان الرجيم بفكرة إبليسية وظف لها شرائح مختلفة من المجاميع غير الواعية في المجتمع، وهي أن توظف القوة المرجعية لخدمة التوجهات والمخططات السياسية بألوانها ومختلف مستوياتها من حيث يعلم العامل في هذا التوظيف بأنه يوظف شموخ المرجعية في هذا المستنقع أو لا يعلم، فهو وبشكل اندفاعي غريب يسعى وبكل ما أوتي من قوة لإمضاء رأي مرجعيته الفقهية على رقاب العباد ضارباً عرض الجدار كل الأسس الشرعية التي قامت عليها التعددية المرجعية في الفكر الشيعي، والأغرب أنه يعمل في هذا الاتجاه (الموهن للمذهب) بدعوى أنه يدافع عن بيضته وقوته!!
من هنا بدأت قصة الانقلابات المستعصية في داخل المدرسة الشيعية وبدعم من (كبار) يرون بقاءهم (كبار) رهينة هيمنة مرجعيته الدينية على باقي المرجعيات في المفاصل التي تقتضي تغليبها كلف الأمر ما كلف، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً إلا أن ذكر واحد منها لا شك أن يستفز أولئك الكثر الذين يستشعرون (الريشة) على رؤوسهم، وتجنباً لإثارة أخوتنا في الدين والمذهب أترك ذكر الأمثلة معولًا على فهم القارئ الكريم وسعته الثقافية والتحليلية. هذا وفي المقابل تتولد مجموعة من ردود الأفعال التي تسلك في الغالب مسلك صاحب الفعل الأول، وأيضًا بمبررات نفسها التي يبرر بها الضارب، وبذلك تضيع البوصلة ويفقد عامة الناس تركيزهم فتكون النتيجة تبرمهم من الدين والمتدينين، وبالتالي تفضيلهم المقاهي ودور السينما على المسجد والكتاب والمحاضرات وما شابه..!!
قد تتضح الصورة أكثر لو راجعنا بعض الكتيبات والمنشورات التي عادة ما توزع في المناسبات العاشورائية محرمية وصفرية، والتي عادة ما تتمحور حول قضية التطبير (ضرب الرؤوس بالقامات والسيوف) من حيث تأييد بعض المراجع لها ورفض آخرين، ففي الوقت الذي من المفترض أن يكون فيه البحث على مستوى الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية نجده وقد تحول إلى جمع آراء الفقهاء كل حسب ما يذهب إليه، وما يوجع القلب أن الكثير من الإدراجات كاذبة لا واقعية لها، وهذا أنا أقسم بالله العلي العظيم بأنني راجعت آراء الفقهاء الذين أدرج صاحب (كتيب صدر قبل سنتين ووزع بكثرة في بعض المناطق) أسماءهم وذلك عن طريق مراسلة مكاتبهم مباشرة ومن بريدي الالكتروني الخاص فوجدت أن ما لا يقل عن 40% منهم لا يتبنون الرأي المطروح في الكتيب، بل ويذهبون إلى عكسه..!!
ثم أننا لو سلمنا جدلًا بأن كل الآراء المنقولة صحيحة حرفيًا، ففي ماذا تعنيني إذا كان مرجع تقليدي الذي أطمئن لأعلميته فضلًا عن علميته يرى خلافها؟؟!!
إن الذي أطرحه هنا ليس بالشيء الجديد ولا هو كشف علمي تشرئب له الأعناق، بل هو من أبجديات الفكر الشيعي في ميدانه الفقهي، ولا يعقل أن يكون الصغار فضلًا عن الكبار في غفلة وذهول عنه، وهذا ما يدعوني لطرح هذا السؤال بقوة:
ما الذي يجري في الساحة؟ ومن الذي يحرك هذه العجلة الكئيبة؟ وما الذي يحركها؟ ولصالح من تُحَمَّلُ القلوب كل هذه الأحقاد والضغائن بسبب خلاف فقهي تماثله مئات الخلافات الفقهية في مختلف أبواب الفقه؟ وكيف تمكنت هذه العجلة من أخذنا معها؟ فهل غاب وعينا إلى هذه الدرجة الكئيبة؟
إنني هنا وفي هذه العجالة ألفت عناية الجميع إلى الانسياب والاتساق الفريد بين الجموع المليونية لزوار الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، فلا المضايف المنتشرة بكثافة وفي كل مكان تسأل الزائر عن مرجع تقليده ولا عن كونه من المطبرين أو لا، ولا تعطى أولوية من أي نوع لأتباع المرجع الفلاني أو الفقيه العلَّاني، فالجميع هناك واحد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل ولك أن تتابع موكب (البحارنة) لترى كيف أن كل الرواديد وبمختلف مرجعياتهم يقرأون لموكب واحد قد استوعب مختلف التوجهات المرجعية وحتى الحزبية، ولو أنك تتأمل لدقائق فقط فإنك لا محالة سوف ترى ببصيرة نافذة أن سر هذا السيلان البشري المتسق هو في ذوبان الواحد في الآخر مع نسف تام للمسميات ما خلا مسمى (زائر)..
أقول: ماذا لو انتقلت هذه الظاهرة (الأربعينية) لتنتشر في كل دقائق السنة وفي كل خطوط الطول والعرض الجغرافية.. كيف سيكون وضع الشيعة حينها؟
ثم أقول: في كربلاء وتحديدًا في وقت زيارة الأربعين نرى أن طبيعة الزيارة أقوى بكثير جدًا من المسميات مرجعية كانت أو حزبية أو أي شيء آخر، ولذلك لا تأتي مثل أفكار السيطرة والاستبداد على أذهان الناس، فشلال الحسين (عليه السلام) غالب هناك.. أما هنا وعند العودة إلى الأوطان فهناك عوامل كثيرة منها الاقتصادية ومنها السياسية والاجتماعية وغيرها تدفع الأجهزة التيارية للسعي نحو فرض الرأي والسيطرة على الساحة حتى لو كلف الأمر تشويه الفكر الشيعي في هذا البعد الذي نتأمله، وهذه العاصفة أقوى –وللأسف- من الوجود الحسيني (الأربعيني) في داخلنا نحن المكونات البشرية لمجتمعاتنا الممزقة.. نعم فلو كانت حسينيتنا بمستوى عشر معشار حسينية الزيارة الأربعينية لأكلنا رغدًا من فوقنا ومن تحت أرجلنا.. ولكن الواقع يحكي غير ذلك، ولن يتغير الحال إلا بموجة تصحيحية تقودها قاعدة متحركة تنثر ورود الوعي في كل زاوية وباحة روحية وقلبية وفكرية، وإلى ذلك الحين فلنفكر دائمًا ودائمًا ودائمًا، فعن نفسي أنا لم أسمع بأحد (مات) من التفكير، ولذلك لا داعي للخوف منه مطلقًا.. نجرب؟؟!!
السيد محمد علي العلوي
20 صفر 1432 هجرية
25 يناير 2011