لست في مقام استعراض آراء أعلام الطائفة من الفقهاء المراجع في حكم ضرب الرأس بالسيوف والقامات بقصد إسالة الدم (التطبير) في اليوم العاشر من المحرم كشعيرة إحياء حسينية، فالآراء واضحة جلية سواء عند المجيزين أو المحرمين، ولكن الذي أرومه في هذه السطور بيان موقع نفس فعل التطبير من السلوك إن كان ابتدائيًا متقدمًا أو ناتجًا متأخرًا، وهذا لا علاقة له البتة بقضية الحكم الشرعي أوليًا كان أو ثانويًا، وليكن ذلك واضحًا للقارئ الكريم.
يركز المؤيدون للتطبير على ذكر ثلاث حوادث يستفيدون منها في دعم وتقوية وترسيخ تأييدهم..
أما الحادثة الأولى، فهي ما أصاب يعقوب النبي على ابنه يوسف النبي (على نبينا وآله وعليهما السلام) من حزن شديد لفراقه حتى أصيب بحالة من فقدان البصر نتيجةَ بكاءه المستمر، قال الله تعالى في كتابه العظيم (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، هذا وهو عالم بأن يوسف (على نبينا وآله وعليه السلام) حي يرزق وأنه يلتقيه يومًا ما.
وأما الثانية، فهي التي يرويها العلاَّمة المجلسي (قدس سره) في موسوعته الحديثية الفريدة بحار الأنوار عن بعض الكتب المعتبرة حسب تصريحه في خصوص ضرب السيدة زينب (عليها السلام) رأسها بمقدم المحمل، قال: “.. وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أم كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض، قال: كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم، ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالُكم، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.
فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والرمح تلعب بها يمينًا وشمالًا، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها..”
وأما الثالثة، فمما خرج عن الناحية المقدسة وفيه قول الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه) في زيارة جده الحسين (عليه الصلاة والسلام): “فلأندبنك صباحا ومساء، ولأبكين لك بدل الدموع دمًا، حسرة عليك وتأسفًا على ما دهاك، وتلهفا حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتياب..”
بناء على هذه الحوادث الثلاث نرى مؤيدي التطبير وهم يجتمعون في اليوم العاشر من المحرم لابسين الأكفان رافعين السيوف والقامات ينتظرون صيحة الطبل وصرخة (حيدر) حتى يبدأون بضرب رؤسهم إلى درجة الإدماء ليسير الموكب حماسيًا تفاعليًا.
بالمقارنة بين ممارسة التطبير والحوادث الثلاث التي يستند إليها المطبرون في تأييد رأيهم وتقويته بعد البناء على أصل الإباحة، نرى واضحًا بأن عمى يعقوب (على نبينا وآله وعليه السلام) كان نتيجة لحزنه الشديد، فهو متأخر رتبة عن تمكن الشعور بالحسرة والحزن من قلبه وفكره.
وفي حادثة ضرب سيدتنا زينب (عليها السلام) رأسها بمقدم المحمل نرى أيضًا بأن مجموع الحوادث التي ألمت بها وبأهل بيتها (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) غارت بالحزن الشديد في نفسها الشريفة فكانت مقدمة طبيعية لمثل ضرب الرأس بمقدم المحمل، وأقل من ذلك نجده في سير الأنبياء والرسل والأصفياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وهو موافق لشدة الموقف، وليس من موقف أشد مما جرى على أهل بيت النبوة في كربلاء، ولا أرى من داع لمناقشة الرأي القائل بالتعارض بين إيمان العقيلة زينب وصبرها وشموخها وبين أن تضرب رأسها بمقدم المحمل، وذلك لعدم ارتقاء هذه الدعوى لدرجة الأهلية للمناقشة أصلًا.
وأما الحادثة الثالثة فإن الإمام المهدي (أرواحنا فداه) يصرح بأن ما يعتصر قلبه الشريف من ألم على مصاب جده الحسين (عليه السلام) لا يعبر عنه الدمع من العين، بل ولا حتى لو تبدل الدمع دمًا، فليس أقل من الموت حزنًا على سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).
في الحالات الثلاث نرى بوضوح أن ما يصل إليه المعصومون (عليهم السلام) من عمى أو إدماء أو حتى موت إنما هو نتيجة لتمكن الحزن من قلوبهم الطاهرة، ولكن الذي نراه عند الأخوة المطبرين هو تقديمهم المتأخر (الإدماء) على حصول الحزن الذي يفترض أن يكون هو المُقَدَّم والمفضي لما قُدِّمَ عليه، وهذا –في تصوري- خطأ كبير في توجيه وممارسة شعيرة التطبير التي من المفترض أن تكون تصويرًا إنسانيًا في أعلى وأسمى وأرقى مراتبه، لو أن القائمين عليها ركزوا اهتمامهم بل وبالغوا في التركيز على تهيئة الأجواء العاشورائية القلبية الناقلة إلى كربلاء في واقعتها التاريخية التي لم يشهد التاريخ ولن يشهد لها من مثيل بأن يوكلوا الأمر لناعين صادقين مخلصين يحيون الموكب بذكر المصيبة بكل دقة وتفصيل حتى تتمثل عند مجاميع المؤمنين فتكون مقدمة حقيقية لتطبير تفتخر به الشعائر الحسينية.
إن الذي أدعو إليه هنا هو إخراج شعيرة التطبير من دائرة الإرادة المباشرة للمطبر إلى فضاء النتيجة الطبيعية لحزن الإنسان السوي على مصيبة كمصيبة أبي عبد الله الحسين (عليه الصلاة والسلام) بتفاصيلها من يُتم وسبي وغير ذلك، ألا ترى الكثير من الشيعة (من المعارضين للتطبير فضلًا عن المؤيدين) وهم يلطمون ويلدمون عند سماعهم للمصيبة الحسينية حتى أنه قد يغشى على الكثير منهم؟ فلو كان في يد أحدهم سيف أو قامة أو ماشابه، أتظنه يتأخر عن ضرب نفسه بها؟
إنه الحسين (عليه الصلاة والسلام) الذي جُعِلتْ من السماء لقتله حرارةٌ في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا، فهو ليس كما يصوره البعض عشقًا أو جنونًا أو ماشابه، بل هو قمة الإنسانية وسنام التعبير الطبيعي الفطري الصادق عن شدة تفاعل النفس السوية والقلب السليم مع مصيبة بحجم مصيبة الحسين (عليه السلام) في كربلاء.
فلتتشح في العاشر (وعند بعض الأربعين أيضًا) الطرقات بالسواد، ولتتعالى أصوات النعي الصادق الحزين حتى تعانق السماء، ولتتوجه النفوس برقة القلوب إلى كربلاء لتتصور تفاصيلها مع الناعي حتى يجري ألم الأفئدة في الحناجر بكاءً وفي العيون دموعًا لنرى حينها كيف أن السيوف والقامات ترتفع بدافع الوجدان فتهوي متألقة في إنسانية حاملها على الهامة معلنةً: (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله).
أما بالنسبة للحماسة الكربلائية فأمر إظهارها موكل لموكب المشق الذي يعبر فيه المؤمنون عن جهوزيتهم الكاملة للدفاع عن الحق مهما كلف الأمر من بذل المهج.
السيد محمد علي العلوي
25 محرم 1432 هجرية
31 ديسمبر 2010