هل تتوقف ساعة؟ لو اخترق مسامعك نداءٌ يخرج من السماوات والأرضين وما بينهما مزلزلًا قلبك معنفًا تلابيب وجدانك بصيحة: توقف..!!
توقف، وإلا فإن دنياك سوف تتحول في لحيظات إلى تنين ينفخ النار نفخًا عاصفًا في كل ذرة من ذرات وجودك..
هل تتوقف؟
توقف وانظر إلى فوقك وتحتك، وعن يمينك وشمالك.. ماذا ترى؟
ترى رمالًا وبحارًا وصخورًا وحديدًا.. هل من شيء غير هذه الجمادات؟ أبدًا، فحتى أنت لست غير مركب منها بنحو من الأنحاء، وثق بأنه لا قيمة لها وبالتالي لك، فالحقيقة أن كل ما في هذا الوجود الدنيوي رهين نفختين، نفخة فناء تام، وأخرى نشور لا ندري هل نكون فيه عراة أم يرحمنا الله تعالى فيسترنا بأكفاننا..
بالرغم من هذه الحقيقة الصارخة التي نعيشها مصغرًا مع كل قلب تتوقف نبضاته فتستل روحه من بدنها، إلا أننا نصر على العيش بطريقة الأعمى عن نقطة النهاية بعيدة كانت أو حتى قريبة، فلا حسابات إلا وترتكز في أولها وآخرها على الدنيا وناسها..
الآخرة غائبة جدًا، ولكن الوظيفة التي تؤمن لقمة العيش –حسب توهمنا- شغل شاغل.. الآخرة غائبة جدًا، ولكن امتلاك مسكن ولو بالذل والتذلل شغل شاغل.. الآخرة غائبة جدًا، ولكن السيارة شغل شاغل.. الآخرة غائبة جدًا، ولكن الزوجة شغل شاغل..
وتغيب الآخرة بعيدًا هناك إذا كان الشغل الشاغل هو البروز والظهور بإغارة الخناجر في خواصر الناس، كيف لا والتكالب على ملذات الدنيا من مناصب ووجاهات وتقبيل أنوف وجباه هو المحور الخفي في سواقط النفوس وتوافه العقول، حتى أن المسيطر في منعطفات المعاش هو التجاوز والتخطي، والرفس والدوس من أجل إصابة مغنم أو الظفر بدرهم.. مع هؤلاء لا كلام لي، ولكنني في آذان المظلومين أهمس، وعلى صفحات قلوبهم بالآلام أكتب.. أتركوهم يلعبون ويخوضون ولا تفكروا ساعة في الانتقام منهم أوالاشتغال بقيح ألسنتهم وثعبانية أظافرهم، فهم (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث)، وما لكم وكلاب مسعورة..؟؟ ما لكم وتبن ما إن تحركوه حتى يتناثر الدود والحيات من تحته..؟؟ ما لكم والتراب إن كان مقصدكم رب الأرباب؟
تأملوا قصة النمرود –ويا لها من قصة ذات عبر- عندما أراد المولى سبحانه وتعالى الانتقام منه فأمر حشرة صغيرة طالما داس أمثالها تحت قدميه بالدخول في منخره ففعلت وعاثت في مخه فسادًا حتى أخذ يضرب رأسه في الجدران وبالنعال.. أين هو اليوم نمرود، وغيره من أبناء الدنيا؟ إنهم في مزابل اللعنات يعضون أياديهم أسفًا وندمًا، أتدرون لماذا؟
يجيبنا تاج الساجدين إمامنا زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) بقوله: ” كفى بنصر الله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك“..!!
يشتغل الظالمون في دنياهم شغل الحجاج في دنياه إذ كان ظلمه الوقح يشير إلى قناعته التامة بأنه خالد في هذه الدنيا لا محالة، هذا وقد كان من أكابر الفقهاء وأعاظم حفاظ القرآن الكريم، ولكن كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “رب تال للقرآن، والقرآن يلعنه”، فالعبرة ليست بطيلسان أو صولجان، ولكنها بالتقوى والورع والعمل في الدنيا من أجل إعمار الآخرة، وهذا ما لا يمكن أن تجده عند أولئك المتسلطين على سير الناس بسياط ألسنتهم وبطش أياديهم، والحال أنه (صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين) يقول: “من خاف الناسُ لسانَه فهو في النار“.
لقد أسالت بلاغة الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) معاني الصورة في النفوس الطاهرة مطمئنة إياها بشكل لا مثيل له، فالحق أن الذي يعادي العباد من غير وجه حق هو في الواقع يعمل فيهم بمعاصي الله عز وجل من غيبة وتهمة وبهتان وقذف ونميمة وإشاعة للفاحشة واستصغار وما إلى ذلك من مفردات تطول في قائمتها السوداء، وماذا تتوقع لمثل هؤلاء؟ هل تحتمل أن يكون إمهالهم من الرب إهمالًا؟
حاشا لله أن يكون ذلك، ولكنه ربما كان فرصة لهم حتى يتوبوا وإلا فالأمر لا يخرج عن (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، وهذا هو والله النصر المبين من رب عادل حكيم.
أذكر قبل بضع سنوات كانت بعض الألسن قد امتدت للنيل من سمعة إمرأة، وبتوفيق من الله تعالى لم تجر إلى الرد عليها ومواجهتها مواجهة مباشرة، والحكمة واقعًا فيما فعلت لأن اللسان الذي يتجرأ على سمعة إنسان لا يرده شيء عن فعل ما هو أسوء، وكما قالوا قديمًا بان العاري لا يضره البلل.. نعم اشتدت الألسن على هذه المرأة حتى دارت السنون وأصبحت هي شمعة هداية لمن حولها، أما الذي رماها قبل قليل فهو اليوم يتمنى رضاها وصفحها عنه..
اتركوا المستأكلين يأكلون في لحم بطونهم، فلا شك في أن ساعتهم آتية وستظهر أمراضهم النفسية وبالًا عليهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما قد أساله السجاد في عمق الثقافة الإيمانية حين قال: “ كفى بنصر الله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك”، وليكن شعار الخير دائمًا وأبدًا: (اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ)..
السيد محمد علي العلوي
24 محرم 1432هجرية
30 ديسمبر 2010