في البداية يأخذ حوض المرأة بالتوسع والانتفاخ، ورحمها بالتقلص والارتخاء ليعلن المخاض أولى ساعاته الممهدة لخروج الجنين عن جنينيته لنور قد يكون فيه هذا العظيم أو ذاك الرذيل، ولو لا هذا المخاض لمات في أحشاء أمه مختنقًا.
إن لهذه العملية الدور الأكبر في خروج الجنين سالمًا، والثابت في الطب أن زيادة الانتفاخ والتوسع في الحوض تساعد كثيرًا في الولادة وسهولتها، ولو أننا نتأمل حركة الموجودات في هذه الدنيا لقُرر عندنا أنها لا تنتج نتاجًا طيبًا إلا من بعد المرور بفترة مخاض هي بمثابة الاعداد لطور وجودي جديد يفهم فيه المولود كيفية التعامل في مواطن الانتقال من ميدان إلى آخر ومن عنق زجاجة إلى فضاء السحاب، وهذا الاستعداد يمهد له المخاض تمهيدًا تكوينيًا له وقع خاص جدًا في لا وعي الانسان.
تُسَلِّمُ حركةُ الكونِ بأسرها لنعمة المخاض ورحمة التوسع والانتفاخ والتقلص والارتخاء لأنها تطلب النمو والتطور دائمًا، إلا أننا في مجتمعنا الشرقي عمومًا نصر على كبس الحوض وخنق الرحم حتى أصبح الأعم الأغلب من مواليدنا مشوهين ممسوخين بقوانين الكبس والخنق. لاحظوا معي إشارات المرور الفكري التالية:
لا تسأل ففي هذا السؤال كفر.. لا تقل هكذا ففي قولك شرك.. لا تبدي رأيًا في قضية كهذه فرأيك محاربة للحق.. لا تعترض على فلان لأنه يرى بعين الله تعالى واعتراضك عليه في فكرة أو ما شابه تعني أنك تعارض الله.. ومن أنت حتى تعطي رأيًا في قبال رأي فلان؟ .. لا تتفلسف كثيرًا فأنت بفلسفتك تخرب عقول الناس.. أصمت فأنت مُحارِبٌ للحسين (عليه السلام)..
وتطول قائمة الكبس والخنق وكأنها علينا من القضاء المحتوم.. لماذا؟
لماذا تربى مجتمعاتنا على التلقي وفقط؟ لماذا يقال للسؤال والحوار جرأة وقلة أدب؟ لماذا تكمم الأفواه حتى أصبح التفكير في فتحها جريمة لا تكفرها زنازين جوانتنامو؟ هل هو ذنب أن يخلق الإنسان في مثل بلادنا؟ هذا وبالرغم من أن الأصل في ديننا وإيماننا هو الحوار والنقاش والانفتاح على كل الآراء دون خوف أو قلق..!!
فيما تبقى من سطور سوف أحاول مناقشة أصل الكارثة الفكرية التي نعانيها، فليتسع صدر القارئ الكريم..
فلندقق النظر في الآيتين الكريميتين التاليتين:
الآية الأولى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)
الآية الثانية: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ)
هناك طريقان للقيادة، أما الأول فهو بدفع مباشر من الله تعالى، في حين أن الثاني هو بطلب وسعي من نفس الإنسان، فإن كان القائد أو المتصدي قد جاء بدفع من الله تعالى وعدم طلب وسعي منه فهو ممن اختارهم الله عز وجل، ولا شك في أن اختياره سبحانه عين الصواب والصحة كما وأنه محل اطمئنان الناس وركونهم حين الحاجة إلى علم أو معرفة أو ثقافة أو أي شيء آخر مما يحتاجه الأسوياء، وفي هذه الحالة لا يمكن أن نتصور من القائد أو المتصدي وصدًا للأبواب أو سدًا لمنافذ العلم والمعرفة، بل على العكس من ذلك نجد منه ما يشبه قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): “سلوني قبل أن تفقدوني”، وعلى نفس الخط هناك من يسعى للفوز بتأييد الله تعالى وهو إن كان صادقًا فيكاد أن يكون أحد المختارين إن شاء الله.
أما النوع الثاني وهو الذي ابتليت به الأمة أيما ابتلاء فهو تصدي من لا يملك أدوات القيادة ومؤهلاتها، إلا أنه يمتلك أشياء أخرى جعلته مَحَلَّ اختيارٍ خاطئ لعامة الناس، وأكثر تلك الأشياء قدرته على التأثير العاطفي والتحرك في فلك أوتار معينة هي في حقيقتها أبعد ما تكون عن العلمية والمعرفية بل وحتى الانسانية التي أرادها القرآن العظيم والعترة الطاهرة، والمشكلة التي يواجهها الفكر مع هذا النوع هي سرعة انتشاره وتحوله إلى ظاهرة حق (وهمي) يدافع عنها المجتمع بكل قوة وعصبية تضطر أكابر العقلاء إلى السكوت بل والمسايرة في كثير من الأحيان خوفًا من ردة فعل مجتمعية تذهب بالناس إلى انحرافات أكبر وضلالات أشد، وحتى يحافظ هذا النوع على وجوده في قمة الهرم فإنه يعمد في أصل فكره إلى تخويف الناس من السؤال والانفتاح على أفق المعرفة الحقيقية؛ فهو نوع يفتقر إلى الحجية في القول والبرهان في الاستدلال، ولكي لا يقع في امتحان السؤال فإنه يعتمد على التقديم بأن كل راد على ما يقوله فهو مشكوك في ولائه لأهل البيت (عليهم السلام) أو أنه لا يفهم الولاية ولا يعرف معنى الإمامة، وهكذا حتى يُتهم بالرد على الله تعالى فيكون المآل إلى تسقيطه وسحقه باسم الدين وبشعارات الولاء لأهل البيت (عليهم السلام).
لقد أورث لنا هذا المنهج في العلاقة بين الملقي والمتلقي أو القائد والمقود حالات متندية على مستوى الفكر العام للمجتمع، ولذلك نشهد اليوم ظواهر العصبية والتعصب غالبة في عالمنا الإسلامي، وعلى العكس عند غير المسلمين، بل وحتى في داخل المجتمعات المسلمة نجد غير الإسلاميين من أتباع اليسار وما شابه يتمتعون بأريحية في الطرح وجذب فكري للشباب خصوصًا، وهذا ليس لقوة حججهم وبراهينهم، ولكنه بسبب احترامهم للفكر الآدمي وإفساحهم المجال امامه للسؤال والحوار دون تخويف وإرهاب.
ثم أن هذا الفكر الإرهابي أعطى الحرية لكثير من الملقين والمتصدين في سَوق الحكاوي الملتقطة من هنا وهناك و-وما أكثرها- آمنين المحاسبة الفكرية بعد أن رسخوا في عمق الثقافة العامة شيطنتها وكأنها هي التي أخرجت أبانا أدم (عليه السلام) من الجنة..!!
إننا –وبكل واقعية- نعيش مأساة فكرية عريضة جدًا، وهذه المأساة لا تحل إلا بحملة واعية لتصحيح المفاهيم وفتح الأبواب الصادقة أمام الجميع لنهضة فكرية شاملة، فديننا دين عظيم وقرآننا قرآن عظيم والعترة الطاهرة عترة عظيمة، ومن يتبع هذه العظمة ينبغي له أن يكون عظيمًا أيضًا، والعظيم يتحمل الألم الشديد في مخاض الولادة إذا كان المنتظر أن يكون المولود مجتمعًا واعيًا في فكره راقيًا في ابداعاته، وإن تخاذلنا عن النهوض بهممنا في هذا الميدان، فليس الملام غيرنا فيما هو مقبل علينا من ظلام مزلزل.
السيد محمد علي العلوي
14 محرم 1432 هجرية
20 ديسمبر 2010