سلما علي ومضيا في طريقهما.. وبقيت أن متأملًا طريقي، فقد كان رجل لا أخاله لم يتجاوز الثامنين من عمره وبصحبته شاب في منتصف سنينه، وعندما نظرت إليهما مرددًا بصري بين الثمانيني والأربعيني شعرت بأن وجه الأول يحكي طين الأرض بعد أن عانى الأمرين من أمطار وزروع وقحول ووطأ أقدام، وأما الثاني فخلته من الكثبان الرملية التي لا تزال شامخة في وجه الرياح محافظة على نفسها من التحول إلى طين.. هنا توقفت..
إلى متى تتحمل رمال الكثيب عواصف السنين المحملة بما نعلم وما لا نعلم؟ هذا السؤال جعلني أتوقف عند أربعينيتي، ولكن سرعان ما اكتشفت أني واهم فليس من إنسان في هذا الوجود يقدر على التوقف ولو للحظة واحدة إلا إذا تمكن من الخروج عن إطار الزمن، والحال أنه مطارد حثيثًا بلحيظات لا تمل من جلده باستمرار ودون توقف.
حينها علمت بأنني أسير نحو أحد أمرين، فإما أن انتهي إلى مشابهة طين الأرض، أو أن يدركني الموت قبل ذلك فأكون حكاية من ضمن حكايات المقابر واللحود.. هذا إن حصلت على من يلحدني..!
مشيت مع اللحظات وأنا أخاطب نفسي..
سواء كان الانتهاء إلى هنا أو هناك فالحال أنني في لحظة سوف أتحول إلى تاريخ مضى وتوقفت أقلامه عندها، فإما أنه تاريخ أرض طيبة يشهد طينها بما كانت عليه من إثمار وحياة، أو أن الشاهد روح يقرأ الناس لها فاتحة الكتاب، أما ثاني الاحتمالين فأرض نكدة وروح خبيثة..
ماذا تختار يا ابن الدنيا؟ وأي طريق تسلك؟
شعرت بجذبة عنيفة أهوت بعيني في سحيق مظلم، وسمعت صوتًا هناك.. سمعته يقول:
وماذا لو تقادم بك الزمن وأنت على حالك الدنيوي فعرضت عليك أمراض لا يحتملها منك أقرب المقربين؟
ماذا لو غطت قذاراتك محل مقامك وأنت في عجز عن رفعها.. ولا أحد يريد الاقتراب منك..؟
ماذا لو أردت قطرة ماء ولم تجد من يسقيك؟
ماذا لو لم تتمكن من التنقل إلى حبوا على الركب؟
هل هذا ممكن؟
يا إلهي.. إلى أين تسوقني أيامي؟
من السماء جاء النداء بأن أفق يا هذا، فليست أيامك، ولكنها ذنوبك ومعاصيك هي التي تسوقك إلى سوء العاقبة وخبث المآل، وأنت اليوم أربعيني لا يزال خيار النهاية بيدك، فلا تسوف واحذر طول الأمل..!
ليست رواية أكتبها، ولا هي حكاية أقصها، ولكنها واقع يعيشه كل واحد منا دون فرق، فملك الملوك ربما انتهى بحشرة تنتهك حرمة (منخره) لتلعب في دماغه ويموت مجنونًا، وكبير الأكابر قد يؤنس الفئران في جحر بعد أن كانت أسود وأريام تؤنسه في قصره..
وقد يخرج غلام من بئر رمي فيه ويكون في سنوات قليلة رئيسًا على خزائن الأرض.. (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
إنها دنيانا المخيفة المرعبة التي لا تهدأ عن التزين والتبهرج للإيقاع بعمارها من الآدميين، وما إن يبدأ أحدهم بالاستجابة لها والارتماء في أحضانها حتى تسارع هي في إغراقه داخل مزابل شهواتها تمهيدًا للجثوم على وجوده في باطنها تحت ترابها المشحون خانقية عمياء.
لا بد لنا من التخلص، فالحال هكذا ينذر بما لا طاقة لنا به، فما هو السبيل يا ترى؟
إنه طريق واحد فقط لا غير، هو الانفتاح المطلق على السماء بالتخلص ما استطعنا من أغلال الأرض بكثبانها وطينها، وليس الأمر بالصعوبة التي يصورها الشيطان في أذهاننا، ولا حاجة للتخوف والقلق، فمن كان مع الله كان الله معه، ومن مشى إليه سبحانه صادقًا مخلصًا صبت عليه رحمة السماء لترفعه عن هذه الأرض الكئيبة.
فلنقلها كما قالها مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): “يا دنيا غري غيري، أبي تعرضتِ أم إلي تشوقتِ؟ هيهات هيهات، قد طلقتكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيكِ، فعمرك قصير، وحظك يسير، وعيشك حقير.. آه آه من طول السفر وقلة الزاد ووحشة الطريق“.
هذا هو الطريق الأوحد للسلامة من خطر العيش في هذه الدنيا، ولا ننسى أن الشيطان وأتباعه لا يتركون هذا الخيار لمؤمن بسهولة ويسر، ولكن أصواتهم عادة ما تتعالى بأن هذا المقام مقام المعصومين (عليهم السلام) ولا طاقة لغيرهم به..
أجيبهم بأننا لا نريد غير السعي، فإن أعطينا فمن الله تعالى وإن حرمنا فلن نحرم أجر سعينا؛ لأن الله تعالى وعد قائلًا: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).. فأعوذ بالله منكم جنًا وإنسًا..
السيد محمد علي العلوي
17 محرم 1432 هجرية
23 ديسمبر 2010