يرى الوهابي التكفيري أن قتله للشيعي والتمثيل به من أعظم وأجل القربات إلى الله سبحانه وتعالى، ونفس هذا القتل يراه الشيعي إجرامًا وحقدًا وضغائن تاريخية، أما الإنجليزي فيراه وحشية ومخالفة إنسانية، فيما يجده الأمريكي فرضًا للقوة يستدعي قوة مضادة لرده، ولكل من هؤلاء مسوغه ومرجعه التأصيلي والأدبي، فالوهابي ليس متطرفًا، ولكنه يفهم الدين ويؤصل له عن أعوجاج في منطلقاته الثقافية، وأما الشيعي فيرجع الواقعة إلى التجابه التاريخي بين الشيعة والخوارج أضف إلى ذلك تاريخية الحدث السياسي منذ سقيفة بني ساعدة وحتى اليوم مرورًا بدول البطش الأموية والعباسية والعثمانية، في حين أن الإنجليزي فرعايته لمبدأية الإطلاق وأن لا شيء يملك الحق للنيل من أي شيء، وعندما نصل إلى الأمريكي فالأصل عنده ليس إلا القوة وسيطرة المال والسلاح!!
قد يكون فعل (القتل) شديدًا على اعتباره يمس حق الوجود للإنسان، إلا أنه ليس إلا صورة لمكررات هائلة في كثرتها تعم المجتمع البشري بمختلف حضاراته وعناوينه، وهذا ظاهر بوضوح في شدة التنافر والانجذاب بشكل بات يهدد الإقبال على الفهم والانفتاح الثقافي المحمود، حتى أننا اليوم أشبه ما نكون بمن قال فيه الله تعالى (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)..
في هذه السطور أذكر سببًا واحدًا أراه العلة الكبرى وراء ما نعيشه من تمزقات قد أصابت الجذع والصدر حتى وصلت إلى القلب، وإن ذهب فلن تفيد الأرجل والأذرع وإن كانت قمة في القوة والبأس..
- الحدود والضوابط
فليسمح لي القارئ الكريم بأن يكون المثل الذي أبين به المقصد هو (التشيع)..
من هو الشيعي؟
الجواب: الشيعي هو الذي يؤمن أولًا بالأصول الخمسة (التوحيد، النبوة، العدل، الإمامة، والمعاد) ويقر مُسَلِّمًا ثانيًا بالفروع العشرة (الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الخمس، الجهاد، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التولي، والتبري)، فإذا آمن بالأصول وأقر مُسَلِّمًا بالمفروع فقد حمل عنوان التشيع، أما التزام الحدود العقائدية (أصول الدين) فهو التزام بين لا تشوبه شبهات، فلله الغنى والوحدانية، وللنبي الرسالة والعصمة الكاملة من الله تعالى، وكذلك الإمام ما عدا النبوة، من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الغائب المنتظر المهدي بن الحسن (عليه السلام) وتاجهم أمهم الزهراء فاطمة (عليها السلام)، فإذا تحقق البناء الشخصي للفرد على هذه المفاهيم الأصيلة فقد تحقق فيه عنوان (التشيع) في إطاره العام، وبذلك فإنه وبمجرد أن يخرق أحدها انحرف عن التشيع بالضرورة، خصوصًا إذا كان خرقه لإطار الأصول العقائدية كأن يقول بعصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) في التبليغ فقط دون سواه، أو أن يقول بإمكان كون الخلافة الإلهية الحقة في غير المعصومين (عليهم السلام)، أو أن يذهب إلى التجسيم أو ماشابه، وكذلك لو أنه نفى الشرعية الأصيلة عن أحد الفروع العشرة كما لو لم يتبرأ من أعداء الله تعالى وأهل البيت (عليهم السلام) براءة نظرية وعملية، أو أنه عطل فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
إنها الإطار العقائدي والاعتقادي الذي يحدد المعالم الأصيلة للشخصية الشيعية، والخروج عليه انحراف سالب لعنوان التشيع، بيد أن هناك إنحرافات أخرى ولكنها غير سالبة لعنوان التشيع، كما لو كان الإنحراف عن إجماع أو شهرة أو ما شابه، ومن العلمية بمكان أن نحذر الخلط بين الأطر المحققة للعناوين، وأقصد بالأطر تلك التي يحددها الباحث من خلال التعريفات بالحدود أو الرسوم، وكلما كان التعريف جامعًا للأفراد مانعأ عن دخول الأغيار، كلما كان البحث أدق في سرده وتشخيصاته وأحكامه، وهذا في الواقع ما يهتم البحاثة والعلماء بتحقيقه في مقدمات بحوثهم حتى قبل بيانهم لمشكلة البحث، بل وما نجده أن الكثير منهم يتسغرق عشرات الصفحات في مناقشة التعريفات، كيف لا واستقامة البحث رهينة دقة التعريف؟
عندما نركز النظر العلمي في محور التعريف المُؤطِّر فإننا نقف على ما يحققه من توجيهات علمية راقية جدًا، منها تجنيب الباحث الوقوع في تيه الإطلاقات والتعميمات، ومنها حمايته من التشخيصات الخاطئة والتي غالبًا ما تكون قاتلة للوعي وفضيلة الإنصاف، ومنها التخفيف من حديات القطوعات الناشئة من ترسبات وموروثات ومتلقيات في قوالب عادة ما تكون صماء لا ترى إلا بعين واحدة وزوايا حادة..
ومنها وهو الأهم –في نظري- تخليص الباحث من الضغط الأجوائي الذي غالبًا ما يسببه الإنتماء الثقافي لمدرسة فكرية أو تيار سياسي أو ما شابه، وهو ضغط لا يقل في خطورته عن خطورة الجو الجماهيري السالب لإرادة التعقل إن لم يكن جوًا توعويًا يخاطب الفرد في الجماهير وليس الجماهير في الفرد، وقد لاحظت الكثير من المتحدثين وأصحاب التصريحات والبيانات والخطابات والكتابات وهم يكررون غيرهم التياري في أنفسهم حتى يتحول الخطاب إلى حالة من النقل والتناقل دون تحقيق وفحص، وفي أكثر من حالة وقفت على تدليس كبير ضاع منشأه في كم النقل والتناقل، والغريب أن يصبح في موضوعه من المسلمات فيكون الخارج عليه منحرفًا!!
إن لمشكلة الضغط الأجوائي انعكاسات ثقافية غاية في الخطورة، وقد لا يخفى على القارئ الكريم كم أن الساحة تفتقر إلى كلمة الإنصاف، وأقصد إنصافنا للكلمة، فهو اليوم (الإنصاف) قد تحول إلى تهمة تستدعي التشنيع والتشهير بمن تقع عليه، والواقع أن الإنصاف ليس إنصافًا للقائل بقدر ما هو إنصاف للمقول، ولأقرب الفكرة بالمثال التالي:
لو قال حاكمٌ أو رئيسٌ أو مديرٌ وللشعب أو الموظفين: “إذا رأيتم فيَّ اعوجاجًا فقوموني”، فإننا نحكم على هذا التصريح بالسلامة تمامًا، والكلام عن التصريح بما هو هو مع قطع النظر عن القائل، فالموقف سليم، وإن أردنا الإستطراد بحثًا ونظرًا، فإننا ننتقل للقائل فنجده السقيفي الثاني، فنحتج علميًا وعمليًا بتصريحه عندما يأتي الكلام عن فاطمية فدك –مثلًا-، ثم نبحث في الطرق الشرعية للتقويم الذي دعى إليه، ولكن كل هذا لا يقدح في سلامة نفس التصريح، وهذا الحكم لا علاقة له على الإطلاق بمصدر الموضوع إلا حينما يكون البحث في موارد الاحتجاج أو ما شابه، أما هو بما هو هو فسليم صحيح، ويكفي في المقام الاستدلال بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحابه في حادثة رفع المصاحف: “الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل”، فالإمام (عليه السلام) صرح بأن الكلمة كلمة حق، ولكن المقصد هو التضليل بها لإقامة باطل، وفي مثل هذه الموارد لا مفر من ضرورة الاستدلال على أن المقول يراد به باطل، وهذا ما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) مفصلًا، ويمكن للقارئ المراجعة.
فلنلاحظ دقيقًا..
عندما يكتب الباحث في مثل هذه الحادثة وبهذا النفس، فإنه يواجه من البعض بتهم شنيعة منها –مثلًا-: أنه يبجل ويظهر احترامًا لكاسر ضلع الزهراء (عليها السلام)!!
هذا الحكم -ومما لا شك فيه- إنحراف علمي صريح، فالقضية في ميدان الحكم على المقول لا علاقة لها بالقائل لا من بعيد ولا من قريب، ولكن الإستسلام للضغط الأجوائي يجر إلى الظلم.. يجر إلى البهتان.. يجر إلى فقد الأحبة والأخوان.. يجر إلى ويلات ثقافية إن كان لها أول فآخرها يصعب إداركه جدًا..
نعم، فنحن لا نعاني تطرفًا ثقافيًا أو فكريًا، ولكن الفهم الأعوج للموازين العلمية يعتصرنا ويريد الإجهاز علينا..
السيد محمد علي العلوي
22 صفر 1434هـ
5 يناير 2013م