ها هو هلال الشهر الكريم يغازل….
يغازل ماذا ؟
لا شك في أنه يغازل شيئًا ما، فلنفكر معًا..
هل يغازل هلال الشهر معدتي ومعدتك؟ هل يغازل وسادة نومي و وسادتك؟ أم أنه يغازل مزاجي ومزاجك؟
ما الذي يغازله هلال الشهر الكريم؟
ليست الروح، ولا هو القلب.. أبدًا..
يغازلُ هلالُ شهرِ رمضان الكريم نسخته من العام القادم، وهذه هي الحقيقة التي ربما لم نلتفت إليها، ولكم التفصيل..
إن لشهر رمضان فلسفةُ حياةٍ تحتاج إلى تأمل عميق، حيث إنه لا معنى إلى أن يفرض علينا المولى سبحانه وتعالى الامتناع لشهرٍ واحد عمّا أحله لنا على مدى أحدَ عشرَ شهرًا من شهور السنة إلا إذا كانت هناك مسألة محورية في القضية، فهو عزّ وجل يقول في صريح القرآن الكريم: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، ويقول تبارك ذكره: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)، وفجأةً يأتي جلَّ شأنه ويقول: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ(!!
الأكل حلال، والمعاشرة فيما بين الأزواج حلال، ولكن هذا الحلال إن لم يفرض الإنسان حاكميته الفكرية عليه فإنه سرعان ما يتحول إلى حيوان، بل شرٌ من ذلك، وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام): “إن الله عزّ وجل ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو شرٌ من البهائم“.
إنها قضية الخطأ في استعمال الطاقات المودَعة فينا وفي هذا الوجود المحيط بنا، وهو ما يؤدي بالفرد والمجتمع وبالإنسانية إلى مهاوي الهلاك والضياع إن لم يكن الوجودي –وهو هلاك قد تحقق بالفعل- فالإنساني وهو متحقق أيضًا بما نشهده من انقلابات متلاحقة في القيم والثوابت، وهذا ملازمٌ للخطأ بالإفراط وكذلك الخطأ بالتفريط، إلا أنّ مسار الإفراط أوضح بكثير من المسار الآخر، ولذلك حذّر منه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حتى أنه قال: “أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج”، وقال (صلى الله عليه وآله): “ثلاث أخافهن على أمتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج“.
إذًا، هناك حالة من عدم التوازن يعيشها الإنسان في الوقت الذي يفقد فيه المعرفة بالوظائف الحقيقية لمجموعة من الأدوات التي أودعها الله تعالى في وجوده المادي، وهذا يجرُّه إلى خارج حدود دائرة الإنسانية التي خُلق من أجل البقاء في داخلها حتى يحقق الغرض الأساسي من الخلق، وهو أن يكون خليفة لله عزّ وجل، والذي يقوّي فيه دوافع الخروج مخلوقٌ نذر نفسه لمثل هذه الأفعال القبيحة.. إنه الشيطان الرجيم وجنوده من الجن والإنس، فإذا استسلم الإنسان ولم يقاوم، وقع في شباك الضياع ومهلكات التيه.
يتضح قدر الخطر الذي يعيشه الإنسان بسبب سوء استعماله لأدوات الحياة مثل الأكل والنكاح والتعامل مع الآخرين، وفي نفس الوقت فإن الانقطاع عنها غير مقدور له، فما هو الحل إذًا؟
الحل في أن يتعلم الإنسان مهارة السيطرة على شهواته بالمعنى الأعم، وهذا لا يتحقق إلا بأمرين، أولهما فهم المراد من الشهوة وفلسفة وجودها في الإنسان وتحت حاكميته، أما الأمر الثاني فالتدريب على أنها ليست غاية في نفسها وإنما هي سبب للاستقرار في بُعد آخر، وهذا ما يتكفله الشهر الكريم بما يوفره من مرغبات في التوبة والمغفرة والسعي نحو التوازن الإنساني الذي يريده سبحانه وتعالى لخليفته في الأرض، وهذا كله يناله الإنسان بالابتعاد الكلي عما تعوّد على مخالطته في غير شهر رمضان، وكأنها رسالة من الله تعالى مفادها أنك أيها الإنسان قادر على العودة إلى إنسانيتك وتغليبها بكل جدارة على الجانب الحيواني الذي ما جعل فيك إلا لما تقتضيه هذه النشأة الدنيوية الزائلة، وبما أن الشهوة أمر دنيوي وأن المولى جلت قدرته خلقنا من أجل العودة إلى الجنة، فليس من العقل تحكيم الشأنيات الدنيوية على الموصلات لآخرة الخير الباقية.
هذا هو عمل الشهر الكريم إذا ما فهمناه جيدًا، أما النتائج فتظهر مع هلال شوال وتستمر حتى غزليات هلال شهر رمضان المقبل، لذا فإن شهادة النجاح في شهر رمضان الماضي يحررها هلال شهر رمضان التالي له، أما الدرجات فتجمعها أيام وليالي أحدَ عشرَ شهرًا من شوال وحتى نهاية شعبان، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ فالتقوى هو كامل الرجاء من شهر رمضان التي إن تحققت كانت الفائدة تامة من شهرٍ جعل الله تعالى فيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهر، كما وفيه أبواب التوبة مشرعة، وفيوضات المغفرة مهيئة، فما على الإنسان إلا أن يحمل ما استطاع من خيرات هذا الشهر الفضيل ويتزود منها حتى قابل، وبذلك يكون بين مغازلتين رمضانيتين فيهما رضا الله سبحانه وتعالى.
اليوم ونحن مع ولادة هلال شهر رمضان الكريم، فإننا في حاجة نفسية ماسة إلى أن نضع نقطة حاسمة في نهاية سطر الشهور والسنوات الماضية، حتى نتمكن من فتح صفحة جديدة نتألق فيها مع شهر إن فهمناه تنزلت علينا بركاتٌ من السماء والأرض، وإن شوهنا معالمه بسوء أعمالنا فليس لنا من عنوان إلا الشقاء والعياذ بالله.. فلتكن نقطة الخير.. نقطة نهاية السطر.
السيد محمد علي العلوي
1 رمضان 1431 هـ
12 أغسطس 2010 م