منذ سنين ونحن نسمع نداءات الحوار مع السلطة تطلقها الجمعيات السياسية والرموز الدينيون وغيرهم، وقد جمعها بعض المؤمنين مؤخرًا في ملف ونشره على شبكة الإنترنت كحجة يحتج بها على السلطة من جهة وعلى شارع الموالاة من جهة أخرى، وأقولها هامسًا: “لو أن السلطة في حينها أعطت الضوء الأخضر لحوار بينها وبين المعارضة لربما كانت قد قضت على هذه الأخيرة بمجرد إعطاء هذا الضوء، والسبب أنه في الغالب لن يكون هناك توافق على الجهة الممثلة للمعارضة في الحوار المزعوم، وإن حصل توافق فعلى الأرجح أنه لن يتكرر في المرئيات والمطالب وما نحو ذلك، أي أن العملية في حقيقتها ضربة قوية للمعارضة”. ولكن: الحمد لله الذي سلم..!!
سنوات ونحن نشهد سعي الجمعيات السياسية للدخول في حوار سياسي جاد مع السلطة، وهذه الجمعيات في واقعها تيارات إما إسلامية وإما ثورية وطنية تنقسم بين ليبرالية ويسارية وما إلى ذلك، ولكن يبقى أنها جميعًا تمثل مدارس فكرية لها تاريخها على أرض الواقع، وإن تجاوزتُ الدائرة الأوسع وتحدثت عن خصوص الدائرة التي تمثل غالبية الشارع وهي دائرة المعارضة السياسية الشيعية فإنني لن أتردد بالقول مصرحًا بما لا يخفى على أحد عن حالة التدابر بين خطوطها وتياراتها إلى حد القطيعة وأكثر، ولذلك كان ظهور وبروز أحدها يعني مباشرة انكفاء الأخر وانطلاق جولات الضرب والتهمة والتخوين.. والعجيب أن كله كان (قربة إلى الله تعالى)!!
سؤالي: لماذا لم نسمع من (التيارات) الأعم من الجمعيات السياسية وغيرها، وأخص بالذكر تيار جمعية الوفاق الوطني الإسلامية (التوعية) وتيار العمل الإسلامي (الرسالي) وتيار (المدني) –مثلًا- إصرارًا على الحوار فيما بينها كما نسمعه حاضرًا فيما بين الوفاق والسلطة؟ بلى، ربما كانت هناك بعض المساعي ولكنها على أية حال من الأحوال لم تكن لتبلغ عشر معشار ما هي عليه اليوم، ولذلك دلالات خطيرة جدًا لا أرى أنه من المناسب ذكرها الآن، إلا أن يومها سوف ياتي لا محالة.
لو أن التيارات الفكرية في داخل الإطار الشيعي المعارض تمكنت من التوصل إلى حالة توافقية تفاهمية فيما بينها لربما كان وضعنا أمام السلطة مختلفًا جدًا، فالقوي المتماسك يفرض نفسه رقمًا صعبًا أينما حل، وهذا على خلاف المتفرق المتدابر المتعادي (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، والمشكلة لم تحل حتى اليوم، ولا معنى لتجمع الجمعيات السياسية (الوفاق، وعد، القومي، الأخاء، الوحدوي.. وفي بعض الأحيان أمل)، إذ أنه تجمع سياسي لا انعكاس له على عموم ثقافة الجماهير التي لا تتأثر إلا بما يخصها من توافقات، والسياسية في الواقع طارئة على اهتماماتها، والحال أن الحوار بين التيارات الفكرية (الدينية خصوصًا) لا يزال غائبًا، وكل خوفي من عودة النزاعات السابقة بمجرد هدوء الأوضاع السياسية، وحينها لن تكون عودة عادية، ولكنها سوف ترجعنا لأسوء مما كنا عليه، والسبب أنها في هذه المرة مزينة بالكثير من المغريات، منها انجازات الثورة والمكاسب السياسية وغيرها، فالمسألة إذن مختلفة جدًا.
بين قوسين (إلى ما قبل الثورة بقليل لم نكن لنستفيق بعد من طاحونة التطبير واللا تطبير، وكيف أن هذا يتهم ذاك بالحرب على الحسين ع، وذاك يتهم هذا بالضلال وتوهين المذهب!! ولا أقول إلا: سلام الله على الدوار..)
كنا نشعر أن كل تيار يريد أن يكون هو فقط ومن دونه تابع يدور في فلكه أو لا أقل لا يزاحمه على أرض الواقع العملي، ولذلك نرى من (يصل) بأنه في الغالب لا ينظر لغيره إلا نظرة المتفضل!!
فلنلاحظ هذه الحالة المتكررة تاريخيًا دون أن تجد متعظ:
في السلطة ثلاثة أجنحة رئيسية: جناح رئيس الوزراء، جناح الملك، وجناج الخوالد، ويأتي رأس ولي العهد من الخلف مراقبًا للأحداث منتظرًا للأوامر من وراء البحار.
المهم في الأمر أن الصراع بين أجنحة العائلة صراعًا حقيقيًا له امتداد تاريخي قد تحول إلى ثقافة راسخة في نفوسهم، ولكن ذلك لم يمنعهم من الالتقاء بشكل اسبوعي فيما يسمى باجتماع العائلة، ولذلك نراهم يجتمعون كالسمن على العسل عندما يواجهون خطرًا كخطر 14 فبراير!!
اجتمعوا وضربوا وتبادلوا الملفات والأدوار حتى ظهروا في تراص مع بقاء كل واحد منهم على دينه، وهذا ما لم نحسنه لعقود طويلة والحال أننا الأولى به لما نملكه من ثقافة قرآنية عتروية تقوم في كثير من أبعادها على مبادئ الحوار والشورى وتبادل الآراء والتوافقات بين المؤمنين، فأين نحن من كل ذلك؟
هل نرى في القريب حراكًا حقيقيًا لتأسيس مجموعة من المجالس التشاورية على مستوى علماء الدين واحد، وآخر على مستوى المفكرين، وثالث للنساء، وهكذا دون النظر إلى انتماء فلان ومرجعية فلان؟ ألسنا في أمس الحاجة لخلق أجواء تؤسس إلى نقلة نوعية في ثقافة التعددية وإفساح المجال للآخر؟
أقول: لا يكون ذلك أبدًا إلا بالحوار الموضوعي مع ضرورة انتفاء أمرين: كل المطامع من جهة، والشعور بالتميز والفوقية من جهة أخرى، وهذا ما كان من المفترض تحققه منذ زمن، ولكن –للأسف- ديس تحت الأقدام حتى وصلنا إلى اليوم الذي تتصاعد فيه حدية الخطاب بين هذا المؤيد للحوار مع السلطة وذاك المعارض له وتشتغل آلة التخوين والتسخيف وما إلى ذلك.
من يعارض الحوار مع السلطة يذهب وبشكل عنيف جدًا إلى ضرب بل وهتك حرمة من يسعى إلى الحوار حتى قبل أي إعلان عن خطوة عملية في هذا الاتجاه، كل واحد يبني ويتصرف على أساس أن: إما أن تكون معي وإلا فأنت ضال مضل وربما فاسق فاجر أيضًا!!
أما من يرى ضرورة الحوار فنراه اليوم وقد بدأت أقلامه في (شدخ) من يعارض الحوار مع السلطة ومحاولة إرجاعه إلى الصفوف الخلفية على اعتبار عدم قدرته على إدارة الأمور، وأنه مجرد ثائر له جزيل الشكر على ما قدم وسوف ترفع صوره وتكتب فيه قصائد الإشادة، ولكن يجب عليه التراجع الآن وإفساح المجال لأصحاب الحنكة السياسية حتى يأخذوا بزمام الأمور، وإن عصى وأصر على موقفه قولًا وفعلًا، فلا أستبعد تطور الأقلام في حديتها وتركيز لسعاتها الموجعة.
لِمَ كل ذلك؟
إنه لغياب لغة الحوار بين مختلف الأطراف ولعقود طويلة حتى بات كل واحد حاملًا للظن ظن السوء في الآخر فقط لمجرد انه الآخر، ولذلك فلا حاجة لا لبينة ولا نصف بينة، ولا زال الحوار الصحيح غائبًا تمامًا، ولا شأن لي هنا بغير حوار يقوم على الأركان التالية:
- اعتبار الدليل وقوة البرهان والطرح بعيدًا عن الوجود الجماهيري وما نحو ذلك، فالموضوعية هي المرتكز.
- لا لنظرية القائد والمقود، بل هناك رأي تدعمه أدلة وبراهين يتصدى لها فريق تنفيذي تشكله مختلف الأطياف ولا يسيطر عليه لون لا أزرق ولا أخضر ولا برتقالي..
- أن لا يكون الحوار من أجل الحوار فقط، ولكن ينبغي أن يكون الدافع إليه هو الإيمان التام بضرورة ضرب الرأي بالرأي لغاية تحصيل الصواب، ولا يهم من أين جاء أو من المبادر به.
إن لم يكن سعي نحو ذلك، فدعوني إذن أبين جانبًا آخر من القضية:
عندما تتوافق المعارضة السياسية مع السلطة على الدخول في حوار بشكل معين، فكل طرف يدخل في هذا الحوار طلبًا للاستقواء بما يقدمه الآخر، فالسلطة تقدم للمعارضة تعديلات دستورية معينة، معالجة الدوائر الانتخابية، زيادة سلطات البرلمان، وما نحو ذلك من مطالب، اما السلطة وبفضل الدخول مع المعارضة السياسية في حوار معلن فإنها تحقق رقمًا ديموقراطيًا جديدًا يقرأه العالم قراءة معينة مما يعود عليها بفوائد كثيرة جدًا خصوصًا إذا رافقت الحوار إجراءات مثل الإفراج عن المعتقلين والإعلان عن محاسبة جادة وحقيقية للمجرمين ممن أذاقوا الناس ويلات التعذيب وصنوف الانتهاكات.. كل ذلك من شأنه أن يحرك إبرة البوصلة في اتجاه الإشادة الدولية بالسلطة ومساعيها، ولا يبعد أن تصدر الجمعيات السياسية بيان إشادة أيضًا، فالمياه الراكدة مع السلطة –وبحسب نظر القوى السياسية- قد تحركت والخير آت!!
ولكن، عندما تتوافق القوى المناهضة للسلطة من سياسيين وثوريين ومنظرين على الانطلاق في حوار يمثل مختلف أطياف أصحاب القضية من الشعب، وتنشر محاوره و(مرئياته) مفصلة لعموم الناس وتعقد المؤتمرات والندوات من أجل دعمه دعمًا ثقافيًا توعويًا، فسؤالي هنا: كيف سوف ينظر العالم حينها للقوى الشعبية في البحرين؟ وقبل العالم فكيف سنكون عند الله سبحانه وتعالى؟ أليس في مثل هذه الإستراتيجية المتقدمة خيرات في الدنيا وأخرى في الآخرة؟
أيهما أهم إذن: السعي لحوار مع من قتلني وانتهك حرماتي وتفنن في تعذيبي، أم السعي لحوار توافقي بين أطياف أصحاب القضية بما يعزز موقفهم ويحقق اللحمة فيما بينهم ويجعلهم على قلب واحد ينكرون ذواتهم من أجل الصالح العام؟
إنها نقلة نوعية بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ إذ ان غياب لغة الحوار فيما بيننا مكنت الظالم من استباحتنا فكريًا وثقافيًا وأخلاقيًا على مدى عقود من الزمن، ونحن اليوم نملك القدرة على إحداث حالة تحول تصحح المعادلة وتجعل الإدارة العامة للحدث في أيدينا.
فهل من حركة يباركها الله فيكون التغيير الجذري؟
السيد محمد علي العلوي
29 ربيع الأول 1433هـ / 22 فبراير 2012م