بداية ألفت عناية القارئ الكريم إلى أن الآتي في المقال قد يكون أجنبيًا عن العقلية السياسية إذا ما أخذناها بما تقرره قوانينها القائمة اليوم، ورجائي من الأخوة السياسيين الذين يمرون على هذه السطور أن لا يعرضوا عنها، وليحتفظوا بها حتى حين، كما وأنه ربما لا يوافق بعض العقليات الثورية التي أطلب منها أيضًا الاحتفاظ به بدل رميه، فقد يأتي وقتٌ تتغير فيه الرؤى.
يفرض التواجد السياسي على من يطلبه ويسعى إليه أن يُكَوِّنَ لنفسه أكبر قدر ممكن من الجماهيرية الشعبية والعلاقات التواصلية في الداخل والخارج، إذ أن عدم الاهتمام بهذا التأسيس يعني وبشكل مباشر مواجهة الضعف وقلة التأثير في القرار وما شابه، لذا فإن مسألة القاعدة الجماهيرية مطلب ارتكازي للبقاء في الساحة بقاء مؤثرًا تأثيرًا من شأنه تغيير الموازين والمعادلات، وهذا في حد ذاته لعب الدور الرئيس في إحداث انقلابات ثقافية مدمرة؛ حيث إن القوة أصبحت بالكم حتى لو كان الكيف مشوشًا فضلًا عن أن يكون باطلًا أو ما شاكل، وكلنا يعلم بأن مجرد السعي لتكوين قاعدة جماهيرية كبرى كيف أنه يفتح أبوابًا واسعة لعدم الاستقامة على خطاب حقٍّ واضح خوفًا من أن لا يكون موضوع جذب للجماهير على اعتبار صعوبة الحق من جهة وصعوبة أن يصاغ خطابه على غير قوانين الدليل والحجة، وهذا ما كان صرفُ الناس عنه مقصودًا منذ قرون طويلة خصوصًا في نطاق منطقتنا الشرقية عمومًا والعربية على وجه الخصوص.
هنا أفتح قوسين: (هل أنجب رحم من هو أبلغ وأفصح من المعصومين “عليهم السلام”، فبالرغم من قدرتهم القرآنية على إيجاد طرق التأثير المختلفة والتي كان يمارسها غيرهم من أصحاب القواعد الجماهيرية العريضة إلا أنه لم يكن منهم غير الطرح الاستدلالي البرهاني وإن جنح عنه الناس إلى غيره مما تستريح له العقول الخاملة والهمم المتكاسلة).
لم تكن سيرة الحكماء قائمة يومًا على إرادة التأثير والإقناع والجذب والظفر بالأتباع، فهم يعلمون جيدًا خطورة مثل هذه التأسيسات الأدبية وكيف أنها كفيلة بحرف من يمتطيها وتحويله إلى أي شيء غير الإنسان بورعه وصدقه وإخلاصه، ولذلك فأنهم يستقيمون مطمئنين على إحراز القوة في الدليل والحجة، ولذلك بقي خطابهم إلى اليوم وسيستمر كمجموعة ضخمة من الموادة العلمية التي تدرس في الحوزات والمعاهد والجامعات ولا يحضرها إلى من علا كعبه في ميادين العلم والمعرفة، أما الخطاب الآخر والذي يعتمد العاطفة والتحريف والتستر على الحقائق فقد ذاب ولكنه خلف في المجتمع عاهات سلوكية تظهر سوءاتها باستمرار في عصبية وتعصب وقلة أدب وانحرافات تهدد الوعي في كل لحظة.
إننا اليوم –وكما قلت مرارًا وتكرارًا- نعيش من جهة نعمًا كبرى خلقتها ثورة 14 فبراير وذلك على مستوى الوعي وثقافة التعاون والتعددية وما نحو ذلك، ومن جهة أخرى فنحن أمام مفاصل ومنعطفات استراتيجية حقيقية قد يكون الخطأ في خياراتها سببًا لتحملنا الكثير من الألم ربما لعقود قادمة، ولا سلامة من الخطر إلا بالتوفر على أمرين أولهما أهم من الثاني:
الأول: ينبغي للشعب اتخاذ قرار حاسم في قضية الإتِّباع، وليكن في علمه أن وحدة الصف ورصه لا تعني أبدًا مجرد تكثير العدد وتحقيق السواد، فهو ليس بأفضل من بالونة ملؤها الهواء الذي سرعان ما يذهب ريحًا بحدوث أقل ثقب فيها، أما التحقق الرصين لوحدة الصف إنما هو في احترام التعددية الفكرية والعمل بتناغم والتوفر على مهارة الحركة الانسيابية عند محطات التعارض، ولن يبقى في آخر المطاف غير صاحب الدليل والبرهان وإن قل أتباعه، أما الآخر الذي لا يرى لا يفكر إلا في التجييش والتحشيد وتكييف الخطاب بما يحقق له ذلك فلا بقاء له وإن طالت أيامه، وفي الغالب أنه يرحل على غير كرامة والعياذ بالله. لذا فإن من أهم مسؤوليات الشارع اليوم أن يركز على الجانب الموضوعي في الخطاب السياسي أو الثوري، وأن يزنه بميزان العقل والحكمة مع طرد أي فكرة تخلقها مقولات مثل: (يرى ما لا نراه، وهو يفهم ونحن لا نفهم…) وما نحو ذلك من مهلكات ومدمرات.
إنك قوي جدًا بفهمك.. بوعيك.. بفكرك.. باستيعابك لما يدور، وليست القوة أبدًا في كثرة العدد والاستئناس بالسواد، وهذه ثقافة ينبغي لك تأملها جيدًا.
الثاني: ليس من المقبول أن يتم استخدام الناس من أجل الوصول لبعض الأغراض مهما كانت صادقة، فمن يعمل معك يجب أن يكون على دراية تامة وفي أطر جريان ما يقوم به، ومن العيب جدًا أن يدفع دفعًا بالتحشيد والتجيش والخطابات الرنانة والأخبار الكاذبة لمجرد تحقيق نصر ميداني هنا وآخر هناك.
على أصحاب الخطاب ومن يوجهون الساحة احترام عقول الناس وتجنب استخدامهم كورقة ضغط سياسية أو ثورية مع عدم توضيح الصورة لهم بما يستحقون.
لقد اختار الناس الثورة على هذا النظام، والمطلوب اليوم بإلحاح شديد أن تتقدم كل القوى الثورية والسياسية بطرح مشروعات واضحة يقف الشعب من خلالها على كل الاحتمالات قدر الإمكان، ولا معنى للخوف من أكذوبة شق الصف ووهم الضعف والتوهين إذا ما اختار الناس هذا الطرح أو ذاك، بل من شروط النجاح أن لا ينظر إلا الطارح بقدر ما يهتم بالنظر في نفس الطرح.
أؤكد أخيرًا على أن قوة التواجد الحقيقية لا علاقة لها بالعدد إلا بما جعله جهل الإنسان، أما هي ففي قوة الدليل والحجة وصحة البيان واستقامة الخطاب دون رتوش من هنا وحركات بهلوانية من هناك وإشاعات لأخبار كاذبة أو غير دقيقة أو تهويلية.
السيد محمد علي العلوي
28 ربيع الأول 1433هـ / 21 فبراير 2012م