بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين.
كلمةُ العالِمِ العالي، ونقدُ الألمعيّ الوداعي، وتعقيبُ الفاضل السَّمَّاك.. رأيٌ في المشهد
ينادي الجميعُ بأهميَّة إحياء أجواء النقد والنقاش العلمي الموضوعي بين العلماء والمثقفين، والصادقين من طلَّاب الفهم الصحيح، ونحن في الواقع نرى مناقشات مفيدة في مجتمعنا، وهو الذي يعنينا، وغيره من المجتمعات عندما نطلب المعرفة في بعض الكتب والمدونات والمواقع الإلكترونية ذات الاعتبار العلمي الجيِّد، ونحن في الوقت الَّذي ننتعش فيه لمناقشات علميَّة موضوعيَّة وازنة تصدمنا منغصاتٌ شديدةُ التَّأثير فيما إذا اقترب الكلام من شخصيَّةٍ لها اعتبار خاص كالرمز أو العالِم، أو مِنْ موضوعٍ يتعلَّقُ بِمَا يكون هويَّةً ومُميِّزًا لطائفة أو جماعة بِشَكلٍ مِنَ الأشْكَالِ كما في بعض مظاهر إحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام) لا سيَّما الإمام الحُسين (عليه السَّلام)، فإنَّ الصدُورَ حِينها تضيقُ والأمزجةَ تَحتدُّ، ولن يُخفي ذلك لينُ عِبارةٍ وما شابه، فإنَّ نفس الأسلوب يكشف عن واقع الحال، وقد رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيئًا، إِلاَّ ظَهَرَ في فَلَتَاتِ لِسانِهِ، وصَفَحاتِ وَجْهِهِ”، ولِمثل هذه الحالة مظاهر كثيرة قد يخفى واقعُ بعضها على كثيرين، فضيق الصدر وحدَّة المزاج ليسا بالضرورة أن تكون العصبيَّة مظهرهما أو الصياح مُبرزهما، بل قد تستتر وراء ابتسامة وتتوارى خلف ضحكة، ولكنَّ عبارة كالسوط تفضحها..
وكيف كان، فقد وقع شيءٌ مِن ذلك خلال الساعات القليلة الفائتة، حيث ألقى العالِمُ الفاضِلُ صاحبُ السَّمَاحةِ الشَّيخ محمود العالي (أعزَّ الله كلمته وأدام بركاته) كلِمَةً في برنامجٍ أقامه مأتم السنابس الكبير لتأبين العَلَمَينِ صاحِبَي السَّماحة والفَضل السَّيِّدِ جواد الوداعي، والسَّيِّد علوي الغريفي (قدَّس الله نفسيهما)، وكان من الحضور الأخ الكريم الدكتور السَّيِّد عيسى نجل السَّيِّد جواد الوداعي الَّذي خَرَجَ بملاحظةٍ سجَّلها على كلمة الشَّيخ العالي وَنَشَرَهَا على حِسَابِهِ الخاص في موقع التواصل الإلكتروني (Instagram) انتقد فيها عدم تطرق الشَّيخ العالي للمدرسة العلميَّة البحرانية في معرض كلامه حول المدارس العلميَّة الشِّيعيَّة، وهنا نصُّ المقالة النقديَّة للسَّيِّد الوداعي:
“أقام مأتم السنابس – مشكورا هذه الليلة، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤م حفلا تأبينيا لروح العلمين الجليلين، السيد جواد الوداعي، والسيد علوي الغريفي، بلل الله رمسيهما بشآبيب رحمته، وكانت كلمة الحفل الأساسية للشيخ محمود العالي، حفظه الله..
بدأ الشيخ العالي – في محور كلمته الأول – بالحديث عن تاريخ الحوزة العلمية عند الإمامية، فذكر مدرسة المدينة، ومدرسة الكوفة، ثم عرج على مدرسة بغداد، والنجف، والحلة، ثم ذكر ما سماه بالحوزات الفرعية، فذكر مدرسة جبل عامل، وكربلاء، وأصفهان، وقد ذكر أشهر علماء تلك المدارس الأصلية والفرعية، ولم يشر إلى الحوزة البحرانية لا من قريب ولا من بعيد، وكأن تاريخ هذه المدرسة الممتد لسبعة قرون عدمٌ، وأن ما أنتجته قرائح علماء هذه المدرسة غفل، لا يستحق الوقوف عنده، أو الإشارة إليه..
لم يفاجئني إهمال الشيخ محمود العالي لمدرسة البحرين، فقد دأب على هذا الإهمال جل من تصدوا لتاريخ الحوزات العلمية، وإذا كنا نلتمس العذر للأبعدين، فأي عذر للأقربين وأصحاب الدار؟؟
ما فاجأني – حقا – هو إسناده الفضل للوحيد البهبهاني – رحمه الله – وجعله مؤسس مدرسة كربلاء، متناسيا ما أشار إليه الدارسون من دور الشيخ يوسف العصفور البارز في تلك المدرسة، قبل أن يكون للبهبهاني وجود فيها.
لم أجد ما أعلق به على كلمة الشيخ العالي – حفظه الله – غير القول السائر: فتاة الحي لا تُطرِب..”
ظهرَ تفاعلُ البعضِ مع مقالة السَّيِّد الوداعي بمداخلات ساد أغلبَها اتفاقٌ على ثبوت حقِّ النقد، ولكنَّها انقسمت بين مؤيِّدٍ لنشر المقالة، وآخر فضَّل إيصالها للشَّيخ العالي دون نشرها على الملأ مراعاة لمقام الشَّيخ (حفظه الله تعالى)، وفي اليوم التَّالي نشر صاحب السَّماحة الشَّيخ غازي السَّمَّاك ردًّا له على مقالة السَّيِّد عيسى الوداعي، هذا نصُّه:
” العلامة الشيخ محمود العالي… رجل العلم والتقوى
قرأت ما خطّته يد الأخ العزيز الدكتور السيد عيسى ابن العلامة السيد جواد الوداعي – رحمة الله تغشاه – في تعقيبه على كلمة سماحة الأستاذ العلامة الشيخ محمود العالي (سلمه الله).
ولي تعقيب على التعقيب ضمن مقدمة وخاتمة بينهما ثلاث نقاط:
المقدمة:
تشرفت بحضور مجلس الدرس عند سماحة العلامة الشيخ محمود العالي (سلمه الله) قبل عدة سنوات، هو لي نعم المعلم والمربي، وهو من الأساتذة الذين أفخر بهم كثيراً، فقد جمع العلم والتقوى، وهو من مفاخر البحرين في وقتنا الراهن.
أيضاً عرفت الأخ العزيز الدكتور السيد عيسى الوداعي من خلال كتاباته العلمية الجادة والراقية.
فهو مثال للطاقات الأكاديمية الجادة التي نفخر بها كثيراً.
فهو دكتور متخصص في اللغة العربية وباحث في التراث المتعلق بالبحرين وعلمائه.
وأحترم كثيراً قناعاته ورؤيته حتى في تعقيبه على كلمة سماحة العلامة العالي.
وقبل كتابتي لهذا المقال اتصلت به مسلماً ومستأذناً للرد على تعقيبه، فما رأيت منه إلا الأدب الجم والخلق الرفيع وسمو الروح.
فله كل المحبة والمودة والتقدير والاحترام.
النقطة الأولى:
وهي شكلية فنية ذوقية، ترتبط بعنوان المقال وطبيعة التعاطي مع المقام العلمي لسماحة العلامة العالي.
ربما لا يتناسب العنوان مع المعنون المرتبط بمحتوى المقال، وأيضاً مع طبيعة التعاطي مع مقام سماحته – ذوقياً -.
وذلك بملاحظة المقام العلمي لسماحة العلامة الشيخ العالي، حيث كان بالإمكان اختيار العنوان والأسلوب الأليق بمقام سماحته.
فأصل الرد على سماحة العلامة العالي لا مانع منه، بل ربما يمارسه معه طلابه – والعبد الفقير منهم – في مجلس الدرس، وشخصياً ربما لا أقبل بعض المباني العلمية والآراء التي يتبناها سماحة الشيخ الأستاذ (سلمه الله)، ولكن يبقى له مقامه واحترامه حتى في عالم الألفاظ والمصطلحات والألقاب.
وهذا ما تعلمناه من الفقيه المحدث صاحب الحدائق وسماحة الوالد العلامة الوداعي (قدس الله سرهما).
ونلتمس للدكتور العزيز ما زاد على السبعين من الأعذار.
ونكرر بأن المسألة ذوقية لا تخدش بالخلق الراقي الذي يتجلى في شخصية الدكتور الموقر.
النقطة الثانية:
بالنظر إلى كلمة سماحة العلامة الأستاذ، فقد كان محورها مفردة الحوزة بمعناها المتعارف عند أساطين وجمهور الطائفة ومحققيها، فالمسألة ترتبط بتاريخ الحوزة عند الإمامية، وهي عندهم – تاريخياً – تتمثل في الحواضر العلمية المعروفة عند الطائفة الشيعية على مستوى العالم العربي والإسلامي، وهي الحوزة التي يُشد لها الرحال وتشرئب لها أعناق الرجال.
والحوزة في البحرين – على الرغم من قدمها تاريخياً وعمقها وأصالتها – فهي لا تعد من الحواضر العلمية عند الإمامية بالمعنى الاصطلاحي المتقدم، وهو السر الذي جعل أغلب من كتب عن الحوزة عند الإمامية أن يهمل ذكر الحوزة في البحرين.
فهي لسيت من الحوزات المعروفة عند الإمامية بالمعنى المصطلح.
وإن كان لها دورها الرائد على مستوى البحرين، وقد كانت حوزة البحرين حبلى بالعلماء، وما بروز البعض منهم إلا حينما هاجر لتلك الحوزات الأم.
نعم ربما أتفق مع الدكتور العزيز بأهمية الإشارة لحوزة البحرين ضمن الكلمة القيمة لسماحة العلامة الأستاذ (سلمه الله) وإن لم تكن ضمن الحوزات الأم أو الفرعية من حيث المصطلح، فلو أشار سماحته لكانت الكلمة أتم وأبلغ.
النقطة الثالثة:
بالنسبة لدور الوحيد البهبهاني وبصماته في مدرسة كربلاء لا يمكن إنكارها، فالوحيد هو صاحب مدرسة ومنهج وليس مجرد عالم وفقيه.
وإبرازه كمؤسس لحوزة كربلاء لا يلغي دور من سبقه ومن عاصره في هذه الحوزة الكربلائية العريقة.
فلا تعني مفردة (مؤسس) بأنه من بدأ بإنشاء الحوزة -كما لا يخفى على أمثالكم دكتورنا العزيز -، وإنما تعني بأن الوحيد البهبهاني هو الذي شيد أركانها -بالمعنى المصطلح لمفردة الحوزة عند الإمامية-.
وهو نظير ما يقال في علم الملل والنحل من أن مذهب التشيع أسسه الإمام الصادق (عليه السلام)، في حين أن التشيع سابق على عصره -كما لا يخفى-.
فالمتحصل: بأن نقدكم إنما كان محوره عدم الالتفات لمفردة الحوزة بمعناها المدرسي عند الإمامية، أو ربما اختلافكم في تعريف وفهم هذه المفردة.
الخاتمة:
أعلم -يقيناً دكتورنا الغالي- بأن صدرك رحب لكلماتي القاصرة، ولك كامل الحق في الرد على كلماتي.
وألتمس منك كتابة مقالين:
الأول: دور صاحب الحدائق العلمي في حوزة كربلاء.
الثاني: معالم الحوزة العلمية في البحرين بين الماضي والحاضر.
علماً بأنني قرأت بعض كتاباتكم في تراث البحرين وهي كتابات قيمة ومهمة وجادة.
شكر الله سعيكم وأحسن لكم الأجر والثواب وزادكم توفيقاً ونفع بكم.”.
ثُمَّ إنَّ السَّيِّد الوداعي عقَّب بردٍّ مطوَّل، هذا نصُّه:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، وعجّل فرجهم..
لم يدر بخلدي أن يكون للمنشور الذي عنونته بـ(فتاة الحيّ لا تُطْرِب) هذا التأثير؛ فقد كتبته انتصارًا للمدرسة البحرانية التي لحقها من الإجحاف ما لحقها على يد الأبعدين مرة، وعلى يد الأقربين مراتٍ ومرات، وكان أملي – وأنا أكتبُ ما كتبتُ – معلَّقًا على وعدٍ بالالتفات إلى هذه النقطة، وإبراز دور علمائنا الأقدمين في خدمة الشريعة الغراء.
ولأنّ (ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه) كما يقول المتنبي، رأيتُ من الردود ما يشي بحميّةٍ ليست في محلّها، فقد تمحورت حول الدفاع عن شخصية الشيخ محمود العالي، حفظه الله، وإبراز مقامه العلمي، واستنتاج (سوء أدب) من تجرّأ فأشار إلى إغفاله ذكر العلماء البحرانيين، وإهماله منجزهم العلمي الكبير، فضاع بذلك الصنيع الهدف الأساس من المنشور، وحُوِّلت القضية إلى قضية شخصية، مع أني لم أكن في مورد الإشارة إلى مقام الشيخ الجليل العلميّ، ولم أتطرّق إلى هذه المسألة لا من قريبٍ، ولا من بعيد، فلستُ من أهل الاختصاص الفقهي حتى يكون لي في ذلك رأي!
لم اكتب ما كتبتُ إلا إيمانًا مطلقًا منّي بحرية مناقشة الرأي بعيدًا عن قائله، فاقتحمت هذه الصعبة، وأبديتُ رأيي فيما سمعتُ، ولا أحسب الشيخ العالي يضيق صدره عندما يشير إليه مشيرٌ بنقصان فكرةٍ أبداها، أو رأي طرحه، فالعصمة لمن عصمهم الله، أما غيرهم فمشمولون بقول الشاعر: (حفظتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياءُ)..
لم يبدد عني ضيق الصدر بما قرأت من ردود إلا اتصال كريم، تلقّيته من الأخ الفاضل الشيخ غازي السمّاك، حفظه الله، يخبرني بعزمه على إنشاء ردٍّ علميّ على (فتاة الحيّ لا تُطْرِب)، ويستأذنني في نشره! فانتابني (طَرَبٌ) و(أسف) في الوقت ذاته؛ طربتُ لأني سأقرأ ردًّا علميًّا على ما كتبته، ولا شيء في الوجود يطربني سوى النقاش العلمي، والأخذ والرد المسيَّجَيْن بالعلم وحده.. وأسفتُ لأنني أدركتُ أنّ حقّ الردّ العلميّ يحتاج إلى إذن من المردود عليه، وتلك علامةٌ على تردّي الوضع العلميّ واضحةٌ وضوح الشمس!
قرأتُ ردّ الشيخ السمّاك، فوجدتُ فيه أدبًا جمًّا، وسموّ أخلاق عزَّ في هذا الزمان نظيرها، فلله درّه! ووجدت ردّه يدور في نقطة واحدة، هي الانتصار لرأي الشيخ العالي، وتصويب إهماله المدرسة البحرانية، ووجدت الردّ واجبًا؛ إذكاءً للنقد ونقد النقد، فسجلت ردّي في نقاط، متجاوزًا المقدمة التي صدّر بها الشيخ العزيز ردّه الكريم، آملًا أن يتسع صدر شيخنا العزيز للرأي الآخر الذي قد يخالفه:
أولا: أخذ عليّ الشيخ في النقطة الأولى عدم تناسب العنوان مع المعنون، وعدم تناسبه مع مقام الشيخ – ذوقيًّا – كما قال، ولستُ أعرف منشأ عدم التناسب؛ فقد استعملتُ قولا سائرًا، جرى مجرى الأمثال، يُضرَب في شأن من ضيّع ما عنده، استغناءً بما عند غيره، وهو صلبُ ما أردتُ إيصاله؛ فقد دأب كثيرٌ من البحرانيين على التقليل من شأن حاضرتهم العلمية، والغضّ من شأنها، وعدم عدّها مدرسةً يشار إليها، وما كان ذلك إلا انبهارًا بالمدارس الأخرى!
أمّا الحديث عن مقام الشيخ العالي العلميّ فأجنبيٌّ عن أصل المنشور؛ إذ لم أكن في مورد الحديث عن شخصية الشيخ، كما تقدم!
ثانيًا: حاول الشيخ السماك تعليل إهمال الشيخ العالي المدرسة البحرانية بالتعلّق بمصطلح (الحوزة) “المتعارف عليه عند أساطين وجمهور الطائفة ومحققيها” ذاكرًا أنّ الحوزة “تتمثّل في الحواضر العلمية المعروفة عند الطائفة الشيعية.. وهي الحوزة التي يُشدّ إليها الرحال، وتشرئبّ لها أعناق الرجال” وأنا أسأل الشيخ العزيز أن يوقفني على من عرّف الحوزة بهذا التعريف، فمن هم أولئك الأساطين الذين اعتمد عليهم في هذا التعريف؟ وإنّما نسأل عن ذلك؛ لنقف على العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي أنتجت هذا التعريف المختل، فالمعروف – في نظرنا القاصر – أنّ الحوزة توجد حيثما وُجِدَ أستاذٌ نابه، وتلامذة مجيدون!
وقد نفى عزيزنا الشيخ السمّاك أن تكون الحوزة في البحرين من الحواضر العلمية، جاعلا ذلك سببًا مسوّغًا لإهمال ذكرها في عداد الحوزات!!
ولو أنّ الشيخ العزيز تأمّل التعريف الذي ارتضاه، لرأى انطباقه على حاضرة البحرين العلمية، أليست الحوزة عند (الأساطين) و(المحققين) هي التي “يُشدّ إليها الرحال، وتشرئبّ لها أعناق الرجال” وأنا أسأل الشيخ السماك: ألم تُشدّ الرحال إلى حاضرة البحرين؟ ألم تستقطب هذه الحاضرة أمثال الشيخ حسين ابن الشيخ عبد الصمد الجباعي العاملي، والد الشيخ البهائي، والشيخ مفلح الصيمري، والميرزا عبد الله الأفندي، والشيخ محمد مكي الجزيني العاملي، والشيخ محمد علي حزين اللاهيجي، وغيرهم؟؟ ألم يقل الرحّالة الأسباني (كارستن نيبور) وقد زار البحرين في ستينات القرن الثامن عشر: “وبما أنّ المثقفين الفرس يجب أن يفهموا القرآن، يقصدون هذه الجزر [يعني البحرين] ليتعلموا العربية، لذا تُدعَى البحرين جامعة الشيعة” فكيف نجمع بين كون البحرين (جامعة الشيعة) وبين عدم عدّها حاضرةً علمية؟ إنّ هذا لشيءٌ عجاب!!
ثمّة عجيبة أخرى في ردّ الشيخ السمّاك، فبعد إقراره – حفظه الله – بكون حوزة البحرين حبلى بالعلماء، قال بطريق القصر: وما بروز البعض منهم إلا حينما هاجر لتلك الحوزات الأم!! وأراني أهمس في أذن الشيخ: هل تعلم أنّ الشيخ سليمان الماحوزي لم يبرح البحرين؟ لقد تتلمذ على علمائها، وأسس مدرسته الكبرى فيها، وخرج من تحت يديه علماء ملأوا الدنيا علما، حتى طار صيته في البلدان، وأشاد بذكره العلماء، كالسيد عبد الله بن نور الدين الجزائري، الذي وازن بينه الماحوزي والفتوني، فانتهى إلى أنّ الماحوزي “أشدّ ذكاءً، وأدقّ نظرًا، وأكثر استحضارًا لمدارك الأحكام الفقهية، وأسرع جوابًا في المعضلات، مع غاية الرزانة والتحقيق”
والشيخ حسين العصفور، المشهور بالعلامة، مثالٌ آخر على أولئك العلماء الذين لم يبرحوا حاضرة البحرين، ولم يتتلمذوا على غير علمائها، وهو من يعرف القاصي والداني فضله ومكانته، ولم يبرح البحرين – كذلك – الشيخ علي المقابي، صاحب (الترجيحية) وغيرها من المصنفات الفقهية، التي تشهد له بالبروز وعلو الكعب، ولو شئنا تتبّع أولئك الذين اكتفوا بالتتلمذ على علماء البحرين لخرجنا من دائرة الاختصار، وهو غير مراد هنا.
ثمّ إنّ أولئك الذين طار صيتهم لمّا هاجروا إنّما كان تحصيلهم العلمي في البحرين، ولم يذهبوا إلى تلك الحواضر العلمية إلا بعد اكتمال عدتهم المعرفية، واشتهار مكانتهم العلمية، ولنا في الشيخ ميثم البحراني خير مثال على ذلك، إذ لم يتوجه إلى العراق إلا بدعوة من علمائها، ولا يكون ذلك إلا لمن عُرِف فضله، وذاع صيته، ولقد تتلمذ عليه كبار علماء الحلة كالعلامة الحلي وغيره.
ومثال آخر على ذلك: الشيخ يوسف العصفور، فمتى وصل إلى كربلاء؟ وهل تتلمذ على علمائها؟ ألم يصل إليها فكان الشيخ؟!! وهل تتلمذ إلا في البحرين والقطيف على أيدي تلامذة الشيخ سليمان الماحوزي؟
أمّا إذا كان المقصود بأنهم اشتهروا عندما هاجروا، فذلك راجعٌ إلى اتساع المدرسة التي انتظموا فيها، واتصالها بغيرها من البلدان، وتلك – والله – لا تعيبهم، لكن العيب قد يلحقنا اليوم عندما لا نراهم علماء يستحقون الوقوف على منجزهم العلمي، بل نرى ذلك المنجَز (مهفّة) لا تقوى على مجابهة (المكيف)!
ثالثًا: أطال الشيخ السماك – حرس الله مهجته – في الحديث عن الوحيد البهبهاني، وبصماته في كربلاء، وأرى أنّ ذلك لا يرتبط بموضوع المنشور، وإنّما أردت لفت النظر إلى أسبقية الشيخ يوسف في تلك المدرسة، ولم أكن شاخصًا إلى الحديث عن الوحيد، فقد تناولت شخصيته بشكل مقتضب في كتابي (الحركة العلمية في البحرين)، وليس هذا الرد المقتضب مكانًا مناسبًا للحديث عنه.
هذا بعض ما ورد بخاطري، وأنا أقرأ ردّ أخي الشيخ غازي، وأحسبه كافيًا لإيصال مرادي، وأنا أرجو من فضيلته قبول هذه المشاغبة العلمية، وأدعوه أن يردّ إن أحبّ ذلك من دون اسئذان.. رسالتي الأخيرة للمهتمين بالحوزة العلمية في البحرين: لن تقوم لحوزاتكم قائمة، ولن تكونوا في عداد الحوزات المشهورة إلا إذا أعدتم لحاضرتكم مجدها، وهذا يبدأ من الاعتراف بها حاضرةً علميةً، كان لها دورٌ في تأسيس المعارف، وذلك الاعتراف لن يكون إلا بقراءة ما سطّره اليراع البحرانيّ المبدع، والوقوف عليه، ومناقشته، وتبيان الجديد الذي أرساه، للبناء عليه، وتحديد ما وقع فيه من أخطاء لتجاوزها، وعدم تكرارها، فهل يمدّ الله في عمري لأشهد ذلك اليوم؟
الله أسأل أن يحفظكم جميعًا، وأن يتقبل أعمالكم، إنه سميعٌ مجيب
الداعي لكم بالخير
عيسى الوداعي
ثُمِّ إنَّ الفاضل السَّمَّاك عقَّب بردٍّ يمكن مراجعته في بعض حساباته على مواقع التواصل الإلكتروني.
بعد هذا الاستعراض أقول:
لا يحتاج العالِمُ العالي، ولا صاحبُ السَّماحةِ السَّمَّاك، ولا الألمعي الوداعي إلى ثناء مِنِّي؛ فهم مِمَّن تنضح سجاياهم ويفيضُ طيبُ عُنصرهم خيرًا وصلاحًا، لِذا فالكلام كلُّ الكلامِ في الآراء المطروحة دون أدنى تجاوز لأصحابها بعد وضوح ما هم عليه مِن خيرٍ وصلاحٍ وصدقٍ وسلامة نفس.
إنَّ ما بعثَ السَّيِّد الوداعي على كتابةِ مقالتِه الأُولى هو عدم ذِكْر الشَّيخ العالي للمدرسة العلميَّة البحرانيَّة في معرض كلامه عن المدارس العلميَّة الشيعيَّة، ولِعَدَمِ ذِكرِه (دامت بركاتُ وجودهِ) احتمالات:
مِنها: غفلةٌ وسهوٌ، ولا شيء غير ذلِك. ومِنها: عدم عدِّ المدرسة البحرانية مِن المدارس التي تُذكَر مَع ما ذُكِر منها. ومِنها: تعمُّد عدم ذكرها تواضعًا وتقديم غيرها عليها احترامًا وتقديرًا للآخر. أو غير ذلك مِمَّا لن نقف عليه دون بيانٍ مِن صاحب السَّماحة العالي (حفظه اللهُ تعالى)، ودون ذلك فمِن المفترض ابتناء المداخلات والمناقشات على مثل هذه الاحتمالات، فيُقال: إن كانت غفلةً وسهوًا، فكذا. وإن كان الرأي على عدم عدِّ المدرسة البحرانية مِن المدارس الَّتي تُذكَر في مصاف ما ذُكِر فإمَّا أن يُؤيِّدَ المُتَداخلُ أو يُخالِف، وفي الحالتين يُنتَظَرُ مِنه إثراء المقام بِما يراه والأدلة والشواهد عليه، فيكون التداول متوجِّهًا لبيان مقام ومكانة المدرسة العلميَّة في البحرين. وإن قلنا بالتواضع وتقديم الغير احترامًا وتقديرًا له، فيُقال بعد ذاك: أمَّا الحقُّ فكذا وكذا.
إنَّ مِثل هذا المستوى من الموضوعيَّة في النقاش والتداول والأخذ والردِّ مِن شأنه أن يفتح أبوابًا لعناوين بحثية مهمَّة، مِثل عنوان: المعايير العلميَّة للمدرسة العلميَّة. وعنوان: منشأ المعايير العلميَّة وواضعها. وعنوان: هل تختلف المعايير العلميَّة من بيئة لأُخرى؟ وعنوان: تاريخ مصطلح المدرسة العلميَّة (الأم)، وهل لها أن تنتقل أو تتكثر؟
عندما يُبنى البحثُ على الموضوعيَّة الصِّرفَة فإنَّه في الغالب يأخذ الباحثين إلى تقرير وصايا حيويَّة تُنتج آثارًا صحيَّة في المجتمع، ولكنَّ الَّذي لاحظتُه، وغيري مِمَّن تداولت الأمر معهم، الانصِراف عن مسألة النَّقد إلى نقد هيئة النَّقد وصورته، وهذا قد يكون صحيحًا، ولكن بعد الفراغ من مناقشة المسألة الأصل احترامًا لموضوعية المناقشة والتداول.
تجارب سابقة:
في بعض النقاشات نرى كيف يتفنَّنُ أطراف النقاش في تضعيف بعضهم البعض بعبارات وإسقاطات لا تُنتظر مِمَّن نحترمهم ونقدِّرهم، منها أن يقول أحدهم للآخر: أظنك لم تقرأ كذا، أو لم تطلع على كذا؛ مِمَّا يكون الإخلال به سقطة فِعلًا.
أو يقول: لا أظنُّك غافلًا عن كذا، أو ما نحوها من العبارات الَّتي تضع الآخر بين التسليم لِما يقوله المُقابِلُ وإلَّا فهو أعمى ولا يرى!
إنَّ مِثل هذا الضيق في الصدور يفرض على كثيرين التردُّد عن المناقشة وطرح الرأي بأريحيَّة، وبذلك يُحرم المجتمع مِمَّا قد يُثري ثقافته ويقوي إمكاناته الفكريَّة. وكيف كان فإنَّ لذلك أسبابًا لا أجد في نفسي قوَّةً على طرحها الآن.
ما أخلص إليه:
أعرِفُ العالِمَ العالي (أدام الله تعالى وجوده المبارك) ليِّنَ العريكةِ طيِّبَ النَّفسِ كريمَها، وأعرِفُ الألمعي النَّابِه الوداعي فاضل السجايا سامي الأخلاق سليلَ الوقار، وأعرِفُ الفاضِلَ السَّمَّاكَ خَيِّرَ المولِد قريبَ الجَنَاحِ، ولو أنَّ وَعيًا ناهِضًا أوقع مُلاحَظَةَ الوداعي موقِعَ التعقيب العلمي بأنْ يتصدَّى من يُنظم محاضرةً له أو ندوةً، أو حتَّى مؤتَمَرًا يتناول تاريخ المدرسة العلميَّة البحرانيَّة ومقامها، وموقع الحاضر منها، ويكون ذلك هو التعقيب الصحي والصحيح على نقده المنشور لكانت الفائدةُ، بل الفوائدُ واقعةً بكلِّ تأكيد، لا سيَّما مع تكرار المحاضرات والندوات، والمؤتمرات المبنية على سابقاتها، وهذا ما تتكون به الأجواء العلميَّة فِعلًا.
أمَّا أنْ تتسارع اصطفافاتٌ وكأنَّها انتصارٌ لجبهات لا وجود لها، فهذا ممَّا لا ينبغي والله؛ فإنَّ شيخنا العالي لم يكن لحظةً في جبهةٍ قَابَلَهَا سيدنا الوداعي في أخرى، ولا يصحُّ أن نكون كذلك على الإطلاق. أمَّا ما حصل فهو كلمة للعالِم العالي سجَّل عليها نقدًا السَّيِّد الوداعي، فلتكن مسألة النقد هي محور النقاش، أمَّا الملاحظات الأخرى فتأتي بعد الانتهاء مِن المسألة الأصل، وهكذا لا تضيع وسط ما يكون بالنسبة لها هامش في صورة الطرح.
اعتقد بأنَّ ما دار من نقاش صرف الأذهان عن أصل مسألة النقد، وهذا بالفعل ما يؤسف له جدًّا.. جدًّا، ولو أردتُ توضيح ذلك لما أعوزتني المادَّة ولا الشواهد، ولكنَّني أُعرِضُ راجيًا من الله سبحانه الحكمةَ يمنُّ بها علينا.
نسأل الله تعالى الخير والصلاح لكافَّة المؤمنين الأخيار في وطننا وطن الإيمان والصدور السليمة.
وكتبه مُتشرٍّفا بالجميع
السَّيِّد محمَّد بن السَّيِّد علي العلوي
20 شوَّال 1445 للهجرة
البحرين المحروسة