مقدمة خاصَّة في منهجية تدريس أصول الفقه لعالي السطحين

بواسطة Admin
0 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على مُحمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين

مقدّمة

ننتهج منهجًا خاصًّا في تدريسنا لخصوص العلوم التي تنتُزع مسائِلُها مِن المُحيط الذي تناله مدارك الإنسان العقليَّة الخاصَّة كإدراكه لاستحالة الدور والتسلسل وكلِّ ما ينتهي إلى فرض اجتماع النقيضين المُحال، والتعقُّليَّة التي تداخلها قوى التحليل والإرجاع والتركيب كما في إمكان وعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي المأموري، وبقاء وعدم بقاء الحكم لِما انقضى عنه التلبُّس. وفي قبال هذه العلوم تلك التي تُتلقَّى مسائِلُها مِن الوحي والنصوص الشريفة، أو التي تُوضِعَ عليها كعلوم اللغة العربية.

أمَّا منهجيَّة تدريس العلوم مِنَ الصنف الأوَّل فتقوم على المُضيِّ في الدرس مِن النقطة والمبدأ الذي شرع مِنه أوَّلُ مَن فكَّر وبحث المسألة المُعيَّنة مِن مسائل العلم، وهذا بعد الفراغ مِن دراسة مبدأ التفكير في العِلم قبل تكونه وتدوين مسائله.

يَفْرُضُ هذه المنهجيَّة إيمَانُنا بأنَّ طلب العلم الخاص لا يصحُّ أن يكون لغاية ضبط المسائل العلميَّة واتقانها والقدرة على تطبيق القواعد تطبيقًا صحيحًا فحسب، بل ما ينبغي أن يكون مطلوبًا ومقصودًا دائمًا وله حضوره الراسخ هو تكوين شخصية علميَّة تمتلك القدرة الكافية لبناء علمٍ ولنقض عِلم، وهذا بعيد المنال ما لم تكن النشأة نشأة فِكر ونظرٍ وإبداع، لا نشأة تقليد وانتماء لهذه المدرسة أو تلك.

نُقرِّرُ أدناه الدرسَ المُقدَّمي الذي ألقيناه على الطلبة الكرام في حوزة خاتم الأنبياء (صلَّى الله عليه وآله) العلمية قبل شروعنا معهم في درس كتاب كفاية الأصول للمُحقِّق الخراساني (قدَّس الله نفسه)، ومِنه يتَّضح إنْ شاء الله تعالى ما أجملناه في المقدّمة أعلاه.

الشروع في البيان:

نتحدث حول منشأ التفكير في تدوين علم الأصول لنبيَّن منهجيتنا في تدريسه لا سيَّما ونحن بين يدي كتاب كفاية الأصول للشَّيخ محمَّد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند (قدَّس الله نفسه)؛ حيث إنَّنا نعتقد بمفصلية هذه المرحلة في الحياة التحصيليَّة لطالب العلم.

مِثالٌ للتطبيق على ما نحن بصدده:

لترسيخ الفكرة التي نودُّ طرحها نقدِّمُ بمثال:

نقول لو ورد أمر بالفعل بعد النهي عنه، أو تعقب الأمر للحظر: هل يفاد من (الأمر افعل) الوجوب تَمَسُّكًا بظهور الصيغة؟ أو يُفَادُ منه الإباحة بالمعنى الأعم على اعتبار المشترك بين الوجوب، والاستحباب، والكراهة، والإباحة؟ أو يُرجع إلى الحكم السابق على الحظر في خصوص موارد الشرط كما في قوله تعالى (إذا حللتم فاصطادوا)؟

السؤال: كيف نبحث هذه المسألة؟

الجواب: نُحَدِّدُ أوَّلًا مَحَلَّ الإشكال، أو ما يُعبَّرُ عنه في البحوث الأكاديميَّة بمشكلة البحث، وهي في الواقع بمثابة العلَّة الغائية لأيِّ بحث يُعقد، وما لم تكن المشكلةُ واضِحَةً عند الباحث صَعُبَ عليه سُلُوكُ طريقٍ علميٍّ واضحٍ في بحثه، إذ أنَّ الخلل عنده واقعٌ مِن البداية وفي مرحلة التصور.

فما هي مشكلة البحث في مسألة الأمر عقيب الحظر؟ لِمَ نبحث هذه المسألة؟ لِمَ يبحثونها في علم الأصول؟ ما هي المشكلة؟

فرضٌ للبيان:

عندنا دليل وارد عن المعصوم (عليه السَّلام) بالنهي عن زيارة القبور، ثُمَّ تعقَّبَ هذا النهي أمرٌ بالزيارة.

أين المشكلة الآن؟

نقول: الوجوب مدلول للهيئة، والواجب مدلول للمادة، والطريق إلى الواقع مدلول المادة؛ إذ أنَّ الهيئة تدل على الوجوب ومقام الوجوب الواقع ونفس الأمر، ولكِنَّ الواجب الدَّال عليه لا يظهر إلَّا في الهيئة، والهيئة لا وجود لها في عالم الإثبات إلا بالمادة، فكلامنا إذًا ليس في المركب اللغوي وإنَّما في مدلول الهيئة. فمثلًا: هذه الصلاة المأمور بها واجبٌ مدلول للمادَّة، أمَّا مَدلول الهيئة فوجوبها، والوجوب أمر تشريعي، مقامه عالم الجعل والتشريع.

إذ اتضح ذلك فإنَّ التعارض والتكاذب بين النهي عن الزيارة وبين الأمر بها قائِمٌ، لكنَّ القَطْعَ واليقينَ بالتكاذب إنَّما هو بين الدليلين، لا بين مدلولي هيئتي النهي والوجوب لأنَّ الطريق للكشف عن ذاك العالم هو مدلول المادة والهيئة، أي مدلول النَّص الوارد وهو ما يُلتمس منه الكشف عن الحال في ذاك العالم. والواقع أن التكاذب بين الدليلين قائمٌ بلا كلام.

موطن ومكان الدليل اللفظي عالم البرهان والاستدلال وهو ما نُطْلِقُ عليه عالم الإثبات، وهو الطريق الذي نسلكه للكشف عن ما هو ثابت، أي عن الواقع، وإذا تكاذب الدليلان فالفرض أن يكون تكاذبهما كاشِفًا عن تكاذب في مقام التشريع، أي أنَّ المولى يقول (افعل ولا تفعل) في آنٍ واحد ومتعلَّق الأمر والنهي واحد، وهذا محال، ووجه الاستحالة التكليف بما لا يطاق، وهو محال على الحكيم سبحانه وتعالى.

ولكنَّ التكاذب واقع فعلًا بين الدليلين ما يوجب علينا البحث عن القانون الذي يُطبَّق في مثل هذه الموارد لرفع التكاذب وحلِّ إشكاله.

مرحلة إعمال النظر:

نقول: أحد الفروض الممكنة: الحظر في عالم الواقع مًقيَّدٌ بعدم تعقُّبِه بالأمر، وبالتطبيق إثباتًا نقول: الالتزام بظهور (افعل) في الأمر؛ لأنَّ هذا التعقب رافِعٌ للحظر بمقتضى القيد.

نقول الآن:

إذا ثبت فرضُ تَقَيُّد الحظر بعدم تعقبه بأمرٍ قامتْ كبرى (كلُّ حَظْرٍ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ أمْرٌ)، ونقول حينئذ: التِزَام ظُهور الصيغة في الوجوب لكونها نافية للحظر السابق بمقتضى القيد.

الفرض الأصولي:

يقوم الفرض الأصولي على أنَّ القواعد التي يقوم الدليل على صحتها يلتزمها الشارع المقدَّس، فكبرى (كلُّ حَظْرٍ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ أمْرٌ) -مثلًا- قَانُونٌ يلتزمه المولى في موارد (الأمر عقيب الحظر).

تصوير الأمر:

إنَّ الشارع المُقدَّس لا يُشَرِّعُ بِحَسَبِ الملاحظة الخارجية، كما في ما لو رصد المُقنِّن الوضعي قطع البعض للإشارة المروريَّة وهي حمراء فسنَّ قانونًا يقضي بتغريم من المُتجاوز.

نلاحظ أنَّ نَفْسَ الرادع الذي يضعه مُقنِّنٌ آخر قد لا يكون الغرامة، بل يرى تشريع قانون يقضي بإنشاء مراكز للتوعية، وتأجيل النظر في قانون العقوبات إلى ما بعد تحقيق مستوى مُعيَّن مِنَ الوعي في المجتمع، وقد يفرض ثالثٌ قانون سحب رخصة القيادة مِن المُتجَاوز.. وهكذا تتعدَّد التشخيصات والنظريات في حلِّ مشكلة تجاوز الإشارة الحمراء.

يفترض الأصوليٌّ ابتناء التشريعات على قوانين ثابتة يتعاملُ الشارِعُ المُقَدَّسُ على وفقها وبحسبها مع النَّاس، والأصل في الأدلة مطابقتها لتلك القوانين، وأنها كاشفة عنها. وهي التي يبذل الأصوليُّ جهده للكشف عنها، وكأنَّه يطلب الكون في عالم التشريع ليقف على حقيقة ما يجري هناك وعلى مبدأ الجعل ومنتهاه.

لفتة مهمَّة: هذا الذي نحاول توضيحه هو في الواقع منشأ لإشكالٍ مُسْتَحكِم يُوجِّهُهُ الأخباريون للأصوليين، ومحصله أنَّ القواعد التي ينتهي إليها الأصوليُّ ويُقرِّرُها ليست بشيء ما لم يدل عليها دليلٌ واضِحٌ عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) حتَّى لو صحَّتْ بحسب النظر، وقد لا يكون مِن خلاف في أنَّ الشارع المُقَدَّس يلتزم قوانين ثابتة للتشريع، إلَّا أنَّ هذه القوانين لا كاشف لها غير النصِّ الشريف، وإلَّا فلا يقين يسوِّغ العمل بها.

عود على بدء..

فَفِكْرَةُ تدوين علم الأصول ناشئةٌ مِن طلب الوقوف على القواعد العلميَّة التي يمارسها الفقيه في عملية الاستنباط بعد القطع العلمي بكونها القواعد التي يقوم عليها الجعل والتشريع بالتزام عقلي مِن المولى جلَّ في عُلاه.

بيانٌ آخر:

فرضٌ: لو أنَّ الله تعالى خلقَ إنسانًا واحِدًا وأمره بكتابة تشريعات كاملة لبشر سوف يُخلقون، فبحسب واقع الإنسان الذي نعرفه لن يجد ذاك الشخص طريقًا لمجرَّد التفكير في التشريعات؛ والوجه في ذلك أنَّ تقنينات وتشريعات الإنسان في هذه النشأة مبنية على التجارب والخبرات، وبالرغم من وجودها فالتشريع قد يصيب وقد يخطئ، والحال ليس كذلك بالنسبة إلى التشريع الإلهي، ولذلك نحن نقطع بوقوع الخطأ في من لا يستيقظ لصلاة الفجر في أوَّل وقتها، ولا يمكن أن نقول بخطأ تشريع صلاةٍ للفجر. فتأمَّل.

إذا اتَّضح كلُّ ذلك، قلنا:

ينبغي أن يقوم الدرس الأصولي على السَّير فيه مِن مناشئ مسائله وعِلَل بحثها؛ حيث إنَّ عِلم أصول الفقه ليس مِن العلوم التي يُطلب فيها ضبط المتون واتقان ما انتهى إليه العلماء، لِما في ذلك من ترسيخ أكيد وتجذير لنزاعات لا مرجع لها سوى اختلاف الذائقة الأصوليَّة بين هذا العالم وذاك، وحينها لن يجد الطالب غير الاصطفاف مع أحد الأصوليين اصطفاف تقليد في أغلب الأحيان، وهذا في حد ذاته نقضٌ لغرض دراسة علم الأصول، وإلَّا لتبنَّى كلُّ أستاذٍ أو كلُّ حوزةٍ قواعد معينة وجمعها في كتاب وجعلها المتن الذي يدرسه الطلبة ويضبطونه ويتقنون تطبيق ما فيه، ولَمَا احتاج الطالب إلى سنين طويلة في دراسة علم أصول الفقه.

إنَّ هذا العلم إلى جانب الفلسفة والكلام والمنطق، والدراية والرجال وسائر العلوم التي تعتمد في انتزاع مسائلها على مدارك الإنسان العقليَّة والذهنيَّة، وهي التي يحسُن إدراجها بحسب التصنيف المعاصر تحت عموم عنوان العلوم الإنسانيَّة. لا يصحُّ، في ما نرى، أن تُدرس كنظريات انتهى إليها علماءُ ومفكرون، ولكنَّها مسائل لها مناشئها في نفس واقع الإنسان ومدركاته، فكان مِن الحقِّ أن يُشرعَ فيها مِن حيثُ شَرَعَ المدون الأوَّل لها، وهذا هو ما نؤمن به وننتهجه في تدريسنا لهذه العلوم، ولذا يجد الطالب غرابة في الدرس وربَّما استيحاشًا مِن الأسلوب لا سيَّما عندما يُحفِّزه على ذلك استغراب أقرانه ومَن سبقه في طلب العلم حين سماعهم عن الأمر ما يجعلنا في مواجهة للكثير من المتاعب، ولو لا إيماننا الكبير بهذه المنهجيَّة لكان الحال غير الحال.

عود على بدء..

لو أنَّنا نلاحظ الأمور الثلاثة عشر التي قرَّرها المُحقِّق الخراساني (قدَّس الله نفسه) كمقدِّمة لكتابه كفاية الأصول، ثُمَّ نرى موقف بعض الأكابر مِنها وكيف أنَّه يعتقد بأنَّ دراستها مضيعة للوقت ونقيس ذلك على عقلية الشَّيخ صاحب الكفاية (قدَّس الله نفسه) التي أثبتتها في الكتاب لوجدنا التنافر بينهما تنافر حقٍّ وباطل، وما كان ذلك ليكون لو التُفِتَ إلى مائِزِ مبدأ الشروع في مثل درس أصول الفقه عن مثله في درس الفِقه او القواعد الفقهية أو تلك العلوم التي نتلقَّى مسائلها مِن جهة الوحي وما أثبتته النصوص الشريفة.

يتعرَّف الطلبةُ على الغاية والغرض مِن دراستهم لعلم أصول الفقه أو المنطق أو غيرها مِن العلوم، والحق في ما نرى أن تُقرن هذه المعرفة بدراسة البواعث على أصل التفكير في كلِّ مسألة تدخل أو يُحتمل دخوله في تكوين العلم، ولا علاقة على الإطلاق بكون المسألة ذات ثمرة عمليَّة أو لا، فالطالب دون مرحلة بحث الخارج ينبغي أن يكون في مراحل تكوين ذهنيَّته العلميَّة التحليليَّة والتحقيقيَّة، وهذا لا يتأتَّى ما لم يجرِ في دراسة العلم مجرى تكونه كما بيَّنَّا، ويتأكَّد ذلك في عالي السطحين.

تنبيه مهم:

لا تستدعي مرحلةُ بحثِ الخارجِ تناول مناشئ المسائل ودراستها؛ فهي في الواقع مرحلةُ مناقشة الآراء والاستدلالات بما يُحدِّد المباني والمسالك، ويُثبِتُ أو ينفي الثمرة العمليَّة للمسألة محل البحث والكلام وما نحو ذلك، فما يريده طالب البحث هو إحكام الفهم لكلِّ ما له دخالة في استنباط الحكم الشرعي، وهي مرحلة لها غاياتها المختلفة على الغايات المطلوبة للمقدمات والسطحين، وقد أشرنا إلى أنَّ كلامنا يتأكَّد في مرحلة السطح العالي مع أهميته لطالب السطح الأوَّل.

نسأل الله تعالى التوفيق للخير والصلاح ولرضاه سبحانه وتعالى، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.

 

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

3 من ذي الحجَّة 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.