قد يتراجعُ وعيُ الإنسان ساعةً، ثُمَّ يعود بعدها ويواصل طريقه في خوض التجارب واكتساب الخبرات والتعلُّم؛ فهذه مِنَ الأجزاء الداخليَّة الطبيعيَّة لدورة حياة الفرد والمجتمع..
.
ولذا كان على العاقل التريُّث وعدم الاستعجال عن وعيٍ وفهمٍ بِضَوابطِ التريُّث و(الركادة)، ومنها أن يخرج مِن دائرة الفكرة لينظر لها من الخارج بعين الفحص وبصيرة الفهم والحكمة، فإنَّ الآثار المُهِمَّة للفكرة عادةً ما تَعْرُضُ بِتَصْحِيحٍ مِنْ حيثياتها الخارجيَّة التي عادةً ما لا يصل إليها نَظَرُ واهتِمَامُ الإنسانِ ما دامَ في داخل الفكرة..
.
نواجه اليوم أخطارًا عظيمةً تُشبِه الضِبَاعَ وقد أحاطت بأسَدٍ أضاع نَفسَهُ وسط أمواج التحديات في صحاري الدماء وروائح الموت.. هكذا نحن اليوم وأصولنا الثقافية تحتوشها أنيابٌ تريد تمزيقها وتضييع معالمها..
.
كلُّ هذا مُتَوَقَّعٌ، وكلُّ مُتوَقَّعٍ آت، ولكنَّ الذي يُعقِّدُ الأمر وتَشْتَدُّ معه أزماتنا هو أن نُعِينَ على أنفسنا في تضييع ما عندنا من أدوات خيرٍ وعوامِل قوَّة ومنعة.. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم..
.
أطرح هنا أمرين برجاءِ أن يفتحا الأذهان على مواضع القياس الصحيح..
.
لاحظوا جيِّدًا..
.
تقوم الثقافة الصحيحة للفرد في مجتمعه على ما تُنتجه تجاربه وظروفه الخاصَّة دون قرار منه بتكوينها، لا سيَّما مع ما لها مِن وقع فعلي في حياته.. نَعَم، تحتاج الثقافات السلوكية والفكرية إلى مراجعة وتنقيح بشكل دائم، ولكنَّنا لسنا في وارد هذا القِسم منها..
.
مِن أمثلة ما نريد بيانه تسمية المساحات الجغرافية في داخل المدينة أو القرية الواحدة باسم (فريكَ -فريق-)، وهو لفظ يدلُّ على الوحدة والتقارب والمنعة الأهليَّة في قبال كلِّ ما دونه إلَّا أن يدخل مسالمًا.
.
فابن (الفريكَ) عندما يقول (يروح الفريكَ) أو فلان من (فريكَنا) أو ما شابه ففي نفس نطقه لكلمة (فريكَ) بمختلف تصريفاتها وهيئاتها واقع عزَّة وانتماء..
.
لم يُقرِّرْ أحدٌ تسمية هذه المساحة مِن نفس المنطقة بـ(فريكَ) ولكنَّها كلمةٌ انتجها واقعٌ عميق حرَّر وقرَّر الدلالة المنسجمة تمامًا مع واقع تجاربه وخبراته.
.
يُعرِّضُ الإنسان صدره لأنياب الضباع عندما يستورد مصطلحًا ويستبدل به دالًّا له عمقه ودلالته الثقافية العميقة، فبالله عليكم مِن مَتى و(فركَاننا) تُسمَّى في واقع تفاهماتنا الثقافية (أحياء)!! هل سمع أحدكم عن (المخاركَة مِن المنامة) أو (فويليد مِن الدراز) -مثلًا- يسميها أحدٌ (حي)؟؟!!
(حي)؟؟!! والله شر البليَّة ما يضحك، وأستغفر الله ربِّ العالمين..
.
أمَّا ثاني الأمرين فهو ليس بأجنبيٍّ عن أولهما..
.
فلنلاحظ..
.
لاسم (الحطب) مِنَ فركَان المنامة، أو (أبو سمادة) مِن فركَان عراد جهات توثيقيَّة مهمَّة، وكذلك الفركَان التي تحمل أسماء عوائل كالحيَّاك مِنَ المحرَّق -مثلًا-، فالاسم نابِعٌ مِن واقِعِ حَدَثٍ تاريخيٍّ يُشكِّل شيئًا فشيئًا ركنًا من الأركان الأساسيَّة في الدراسات التاريخيَّة والإثنولوجيَّة وما نحوها مِنَ الدراسات التي تتناول الإنسان بما هو كائِنٌ ثقافي له عمقه العضوي الثقافي والفكري في تاريخ المناطق الجغرافيَّة..
.
ميزة أسماء المناطق أنَّها لا تأتي بقرار مِن أحد، وإنَّما يفرضها بسلاسة تامَّة واقِعها الوجودي، كما لو اتَّسَمَت منطقةٌ بالظلام لبُعدِها عن الفركَان المأهولة في المدينة أو القرية، وعندما بدأ الأهالي ببناء البيوت فيها جرى على ألسنتهم اسم (الظلام) وهم يحددون المنطقة التي يريدون البناء فيها، فيقول قائلهم: بنبني في فريكَ (الظلام).. قد يستاء البعض مِن الاسم، ولكن في الواقع هو ناطق بمدلولٍ فَرَضَ نَفْسَهُ في الأذهان..
.
ونفس الشيء بالنسبة إلى تسمية المآتم وما نحوها.. فقِس آمنًا رعاك الله تعالى..
.
يُقَال: وهل يُشكِلُ موالٍ لأهل البيت (عليهم السَّلام) على تسمية المنطقة بأسمائهم الشريفة؟
.
فأقول: لم تفهم شيئًا ممَّا قُلتُ، فعسى أن يجعل الله أمرك إلى خير..
.
وختامًا.. لا نكن نحن والزمان على أنفسنا.. فهذا ممَّا لا ينبغي مِن عاقِلٍ..
.
والكلام ليس يُخْتَصَرُ، ولكنَّه الماءُ يَمْلَأ فَمِي وقد اعتدتُّ غصَّاتٍ وشَرَقَاتٍ لا أخَالها تنقضي..
.
لا أدري لِمَ اخترتُ لمقالتي هذه الصورة أعلاه، ولكنَّها راقت لي ووجدتُها تتهادى حتَّى استقرَّت، وكيف كان فهي لابن عمِّي السَّيد سمير السَّيد حمزة العلوي، أقف إلى جانبه، ومعنا ابنه السَّيد هاشم وابني السَّيد علي، وسبطيه ورد وعزيز، وسبطي السَّيد محمَّد الموسوي..
.
ورُبَّما تُقرَأ..
.
ملاحظة: أردتُ هذه المقالة للنشر في حسابي الخاص في تطبيق (instagram) ولكنَّ المساحة هناك ضاقت عليه، ورجائي ان لا تضيق عنه صدورٌ وأذهانٌ أُحِبُّ لها الخير ما احببتُه لنفسي..
.
العلوي
صُبح الجُمعَة 6 مِن ذي القعدة 1444 للهجرة
محروستنا البحرين