يقع في اللحظة الزمانية الواحدة ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى من الأحداث، كالموتِ والولادَةِ وانعِقَادِ نُطْفَةٍ، وحادِثِ سَيرٍ، ونَجَاةٍ مِنَ غَرَقٍ..
وهُنَاكَ عابِدٌ يَسجُدُ، وعَبْدٌ يَزنِي..
هُنَاكَ من يُسَبِّحُ، وفي قباله آخرُ يَشْرَبُ الخمْرَ..
وهكذا هي اللحظةُ الواحِدةُ تحمِلُ ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأحداث المتضادَّة والمتعاكسة من جهة قييميتها!
انتهى النظرُ القاصِر إلى أنَّ كلَّ لحظة زمانية تقعُ، من حيثية الانتخاب الإلهي، موافقةً لعنوان تكويني ثابت له جهتان:
الأوَّلى: الاختصاص النفسي. فالعنوان التكويني الذي وقع فيه مولد الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) له واقع حُسنٍ تكويني، وافقه بالإرادة والمشيئة الإلهيتين المولد الشريف للنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فهذا الحدث العظيم لم يقع في لحظة زمانية صدفةً، بل هي لحظة موافقة في حدوثها لعنوان تكويني ثابت. فاللحظة وجود إثباتي لواقع ثبوتي.
الثاني: وحدة القياس. تُقاسُ الأعمال على وفق مجموعة من المبادئ والقواعد الإلهية الحكيمة، منها، اللحظة التي وقع فيها العمل من حيث موافقتها للعنوان التكويني الثابت، ولذلك كان الإحسان في أوقات خاصَّة أكثر ثوابًا منه في غيرها من الأوقات، وكذا المعصية، فقد يتضاعف العقاب عليها إذا وقعت في وقت خاص، مثل ليلة القدر، أو ماشابه.
إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ اللحظات من حيث التكوين مرتبطة في وقوعها الخارجي بعناوين تكوينية عليا، هي أقرب إلى التعبير عنها بالظرف لكلِّ اللحظات المتصرِّمة التي نعيشها في هذا الوجود المحسوس، لذلك كان العنوان التكويني الثابت لمولد الرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -مثلًا- واقعًا يعود إليه الزمان المُتصرِّم، أو الاعتباري، مرَّة في كلِّ سنة، وكذا ليلة القدر، فهي ليلةٌ مباركة عظيمة لمطابقتها لعنوانها التكويني الخاص، وإلَّا فليلة القدر، على فرض أنَّها ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، ليست أكثر من ليلة كباقي الليالي، لو لا تميزها بالمطابقة مع الليلة العليا (العنوان التكويني) التي انتخب الله تعالى فيها ما انتخب من أمر عظيم؛ فإنَّ اليوم، بحسب فهمنا القاصر، يذهب مُتَصَرِّمًا بتِصَرُّم لحظاته، فلا معنى لإحياء توقيته السنوي إن كان التوقيت اعتباريًا. نعم، يمكن ذلك من باب الذكرى، ولكنَّا لا نتصور التشريع على بناءات اعتبارية، لذلك صار النظر إلى القول بوجودٍ ثابتٍ تتحرَّك فيه اللحظات المتصرِّمة، وتكتسب أحوالها من جهة مطابقتها لعناوين ثابتة في ذاك الوجود الثابت.
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: “لمَّا قُبِضَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قام الحسنُ بن عليٍّ (عليه السلام) في مسجد الكوفة فَحمد اللهَ وأثنى عليه، وصلَّى على النبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآله)، ثُمَّ قال:
أيُّها الناس، إنَّه قد قُبِضَ في هذ الليلةِ رَجُلٌ ما سبقه الأولون ولا يُدركُهُ الآخرون، إنَّه كان لَصَاحِبَ راية رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله)، عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل، لا ينثني حتَّى يفتحَ اللهُ له، واللهِ مَا تَرَكَ بَيضَاءَ ولا حَمْرَاءَ، إلَّا سبعمائة درهمٍ فَضُلَتْ عَن عطائِهِ، أرَادَ أنْ يَشْتَرِيَ بها خَادِمًا لأهله.
واللهِ، لَقَدْ قُبِضَ في الليلَةِ التي فِيهَا قُبِضَ وَصيُّ موسى يوشعُ بن نون، والليلَةِ التي عُرِجَ فيها بعيسى ابنِ مريم، والليلَةِ التي نُزِّلَ فيها القُرْآنُ”[1].
نبَّه الإمامُ الحسنُ (عليه السلام) الناسَ إلى أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قُبِضَ في الليلة التي قُبِض فيها يوشع بن نون، والليلة التي عُرِجَ فيها بعيسى ابن مريم، والليلة التي نزل فيها القرآن!
قد لا نستقرب قصد الموافقة من جهة مجرَّد عودة التاريخ الاعتباري، أي أنَّ في (مِثلِ) هذه الليلة قبل قرون حدث كذا وكذا؛ فهذا، كما يظهر للنظر القاصر، لا قيمة له. لذا، فإنَّ ما يَقْوَى وقوع الليلة المقصودة تحت عناية خاصَّة من الله تعالى كلَّما عادت إلى موقعٍ محدَّدٍ تكوينًا.
قد يُقال: قلتم بأنَّ الأحداث في اللحظة الواحدة لا تُعدُّ ولا تُحصَى، فعلى أيِّها يقوم العنوان التكويني الثابت؟
فنقول: بل الأحداث الواقعة هي التي تعود إلى العنوان التكويني الثابت، لا العكس؛ فليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، مثلًا، وقعت فيها أحداث عظيمة، منها قبض أمير المؤمنين ويوشع بن نون (عليهما السلام)، وعروج عيسى (عليه السلام)، ونزول القرآن الكريم، وكلُّها واقعة موافقةً لعنوانٍ تكويني خاصٍّ، وهذا أمر تشير إليه الكثير من الروايات الشريفة الواردة في هذا المقام عن أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها تحديد الليالي الصالحة وغير الصالحة للزواج، وانعقاد النطفة، والسفر، وما نحو ذلك. وقد نستطرد، فنقول: لعدم إمكانية إحاطة الإنسان بتلك اللحظات وما فيها، أُمِر بالدعاء والتصدق لدفع البلاء، وهذا أمر ينبغي الالتفات إليه جيِّدًا.
تمسَّك الشيعةُ (أعزَّهم الله) بإحياء ذكرى مواليد ووفيات أهل بيت العِصمَة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فإذا صحَّ ما حاولنا تَقْريرَهُ، كانوا (أعلى الله تعالى رايتهم) في مواقع القرب الإلهي مع كلِّ ذكرى يسعون إلى إحيائها؛ لأسباب، منها التقائهم مع عناوين تكوينية ثابتة، لها موقع العناية الخاصَّة من الله جلَّ في علاه، وبذلك، كلَّما ازدادت المعرفة بتلك العناوين، اشتدَّ التعلق والاتصال بحقيقتها، وهو طريق للقرب من الله تبارك ذكره.
بناء عليه، فإنَّ الاهتمام بإحياء ذكرى مواليد ووفيات أهل البيت (عليهم السلام) يتجاوز المسائل الثقافية من جهة الرفد العلمي والمعرفي من المنابر والقصائد والملتقيات، وما شابه، فهو اهتمام بعناوين تكوينية لها موقع العناية الخاصَّة من الله جلَّ في علاه، فمن يكون في تلك الليالي ملتفتًا إلى ما هو فيه، كان، بشكل أكبر من غيره، تحت نظر الله تعالى وعناية سادتنا من آل بيت محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) سيما القائم بالأمر ولي الله الأعظم إمامنا الحجَّة بن الحسن (عجَّل اللهم له الفرج).
ولا يُقال: كيف يُصاب العنوان التكويني الثابت، على فرض صحَّة المُدَّعى، والحال اختلاف الناس في تحديد هلال الشهر؟
لأنَّا نقول: تتوافق الليلة بحسب القطع الشرعي بها مع عنوان تكويني ثابت، ولا يصحُّ المداخلة بين المظروف الزماني والعناوين التكوينية الثابتة.
في ليلة القدر:
جاء عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أنَّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) قال لابن عبَّاس: “إنَّ ليلةَ القَدْرِ في كُلِّ سَنَةٍ، وإنَّهُ يَنْزُلُ في تلك الليلة أمْرُ السَنَةِ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله).
فقال ابنُ عبَّاس: من هم؟
قال (صلَّى الله عليه وآله): أنا وأحد عَشَرَ من صُلبِي، أئِمَّةٌ مُحَدَّثُون”[2].
وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لأصحابِه: “آمِنُوا بِلَيلَةِ القَدْرِ؛ إنَّها تَكُونُ لِعَليِّ بنِ أبي طالب، ولِولدِهِ الأحَدَ عَشَرَ مِنْ بَعْدِي”[3].
الظاهر من هذين الحديثين، وغيرهما، حقيقة الليلة؛ لما لها من انتقال في المرجعية، وربَّما الملكية، ما يُرجِّحُ كونها خلقًا مُسْتَقِلًّا له شأنه الخاص، أُرِجع في هذه الدنيا، وربَّما في عوالم أخرى أيضًا، للرسول الأكرم والأئمة من بعده (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ولا يبعد، بل قد يكون هو المتعين، اكتساب هذه الليلة عظمتها وشرفها وعلو شأنها من انتسابها لنور محمَّد وآله (عليهم السلام).
فهنا أمران:
الأوَّل: وقوع ليلة القدر من شهر رمضان في موقع الموافقة مع عنوان كوني له موقع العناية الخاصَّة من الله تبارك ذكره.
الثاني: رجوع ليلة القدر في شؤونها لولي الأمر من آل بيت محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
بهذين الأمرين يكون الطريق لإحياء هذه الليلة العظيمة بتقوية التمسك بوليها (عجَّل اللهم له الفرج)، ومن بعد ذلك الوقوف على كونها في الدنيا مظهرًا إثباتيًا لواقع ثبوتي له شأنه العظيم عند مالك الملك، جبَّار السماوات والأرض سبحانه وتعالى، فهي ليلة من أعلى ليالي السنة في درجات المعرفة والتقرب من أولياء الأمر (عليهم السلام).. هي ليلة الولاية التي استفاضت الأحاديث الشريفة في بيان خطرها وعظيم أمرها.
قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): “بُنِيَ الإسلامُ على خمس؛ الصلاةِ، والزكاةِ، والحجِّ، والصومِ، والوَلَايَةِ، ولم يُنادى بشيءٍ ما نُودِيَ بالوَلَايَةِ”[4].
وعن زُرَارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “بُنِيَ الإسلامُ على خمسةِ أشياء، على الصلاةِ، والزكاةِ، والحجِّ، والصومِ، والوَلَايَةِ.
قال زُرَارةُ: فأيُّ ذلك أفضل؟
فقال (عليه السلام): الوَلايَةُ أفْضَلُهُنَّ؛ لأنَّها مفْتَاحُهُنَّ، والوَالِي هو الدَليلُ عَليهنَّ”[5].
والختام بهذه الرواية العظيمة:
عن زُرارة، قال: “سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنَّ للغلام غيبةً قبل أن يقوم.
قال زرارةُ: قلتُ: ولِمَ؟
قال (عليه السلام): يخاف – وأومأ بيده إلى بطنه -، ثُمَّ قَالَ: يا زرارة، وهو المُنْتَظَرُ، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته؛ مِنْهُم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنَّه وُلِدَ قَبل موت أبيه بسنتين.. وهو المنتظرُ، غير أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يَحِبُ أنْ يَمْتَحِنَ الشِيعَةَ، فعند ذلك يرتابُ المُبْطِلُونَ يا زرارة.
قال زرارةُ: قلتُ: جُعِلْتُ فداك، إنْ أدركتُ ذَلِكَ الزَمَانَ، أيّ شيءٍ أعمل؟
قال (عليه السلام): يا زرارة، إذا أدركتَ هذا الزمان فادْعُ بهذا الدعاء: (اللهمَّ عَرِّفني نَفْسَكَ، فإنَّكَ إنْ لم تُعرِّفني نَفْسَكَ لم أعْرِفْ نَبيَّكَ. اللهمَّ عَرِّفني رَسُولَكَ، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفني رَسُولَكَ لم أعْرِفْ حُجَّتَكَ. اللهمَّ عَرِّفني حُجَّتَكَ، فإنَّك إنْ لم تُعَرِّفني حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عن دِيني”[6].
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
21 من شهر رمضان 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………….
[1] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 457
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 532 – 533
[3] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 533
[4] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 286
[5] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 286
[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 337