تحدثتُ في مقامات سابقة حول المنظومة الإدارية للإسلام بشكل عام والتشيع على وجه الخصوص في المجتمعات قبل خمسة عقود تقريبًا، وأشرتُ إلى أنَّ انغلاق المجتمعات يفرض نمطًا خاصًّا في العلاقة بين عموم الناس وعالم الدين من جهةِ أنَّهم لا يرون غير دينهم الذي يُمَثله بينهم عالم الدين، فيُصَدِّقُونَ ما يقول ويمتثلون أوامره بأريحية تامَّة؛ إذ أنَّ الداعي للتشكيك أو ما في حُكْمِهِ مُنْتَفٍ أصلًا بسبب انغلاق المجتمع.
لذا، فإنَّ عالِمَ الدينِ حينها لم يكن مضطرًا للحديث عن دقائق الأمور في العقيدة وفي مدارك الأحكام الفقهية، كما وأنَّ حديثه عن فضائل الأئمة (عليهم السلام) مُصَدَّقٌ لا يقف أمامه مانع من تشكيك أو خوفٍ أنْ يٌشنِّعَ على المؤمنين مخالِفٌ أو مُعَانِدٌ.. كانت الحياةُ آمِنَةً إلى حدٍّ كبير في هذا الجانب..
لا أقول مُنْحَازًا ولا مُبَالِغًا، ولكنَّه الحق..
الشيعةُ مؤدَّبون جِدًّا، ومُسَالِمُونَ في تعاملهم مع الآخرين، وفي أكثر الأحيان يُنْكِرُونَ ذواتهم وذاتَهم لمصلحة صداقَةٍ تبقى وعلاقة تستمر مع الآخر المخالف.. وربَّما حتَّى المعادي!
الشيعي في الواقع لا يُفكِّرُ في نشر التشيع بين مخالفيه من المسلمين، بل الواقع يؤكد على رفضه للحديث معهم في القضايا المذهبية وما نحوها.. هذا واقع عشناه وعاشه آباؤنا والأجداد..
لَمْ يُتْرَكُوا..
كلَّما سنحتْ للآخَرِ فُرصةٌ احتوشَ الشِيعَةَ مُهَاجِمًا مُتَهَجِّمًا بلا خطوط لا حمراء ولا زرقاء، وهذا مع تحركات مرافقة جادة للتشكيك في المذهب وأصوله بطرق وأساليب وخطابات مختلفة، حتَّى انتهى الأمر إلى انفتاح الساحة الثقافية بشكل كامل، ودون أدنى قيود، خصوصًا مع الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل المتوتر (يسمونه: الاجتماعي).
لم يعد الحال كما كان، وتراجعت خياراتُ التراجع، ولم يبقى غير خيار الظهور العَقَدِي بِحَسَبِ المقام ومقتضياته، ولهذا الخيار نتائج قد لا تروق لطبائعنا الثقافية، ومنها تشنيع الآخرين علينا. هذا بالرغم من أنَّ فعلهم يكشف عن سوءات عندهم لا عندنا، ولكنَّ الطبعَ الثقافي العام أورث فينا ضعفًا في القدرة على تجاوز تشنيع الآخرين، ولذلك يظهر مِنَّا من يُنكِر الكثير من الأحاديث في فضائل وكرامات أهل البيت (عليهم السلام) متخذًا الضعف السندي ذريعة، والحال -في نظري- أنَّه يعيش حالة تُشبِه الوسواس القهري من كلام الآخر المخالف!
لا شكَّ في أنَّنا لا نطلب الصراعات ولا نسعى للدخول في مواجهات مع الاخرين تستهلكنا وتشغلنا عن الأهم، كما وأنَّنا نبتعد ما استطعنا عن إثارة المخالفين بما يأخذهم إلى ما اعتادوا عليه من تهمة وسبٍّ وشتم وما نحو ذلك من ألوان التشنيع، ولكنَّ المؤمنين اليوم في مرمى التشكيكات التي يثيرها المُخالفون، ولا بدَّ، ولو على نحو الواجب الأدبي، تقوية البنية العقدية ببيان بعض الدقائق في المباحث العالية، وخصوصًا المقامات الغيبية للمعصومين (عليهم السلام).
نلاحظ كثيرًا تكرارًا من بعض المؤمنين لعبارات طالما شنَّع بها وردَّدها المخالفون علينا، كقولهم:
ماذا أبقى الشيعةُ لله تعالى؟ الأئمة بشرٌ كسائر البشر، وهذا صريح قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ).
لا شكَّ في أنَّ الأئمة (عليهم السلام) بشرٌ في هذه الدنيا، فهم لحم وشحم ودم وعروق وعظم… كسائر البشر بحسب ما يظهر مُدرَكًا لنا. لكنَّ الحديثَ عن مقاماتهم حديثٌ عن حقائق متعالية تبتني عليها العقيدة في عمقها، وإظهار مثل هذا العمق يتطلبه المقام الثقافي المعاصر الذي نعيشه ويفرض علينا خيارات خاصَّة.
أشير هنا إلى نقطة مهمَّة جدًّا..
يقوم القرآن الكريم والحديث العِتروي الشريف بدور الكاشف الإثباتي لعالم الحقائق الثبوتي، ومن عظيم الخطأ التعامل مع هذين الثقلين المقدَّسين بعقلية محصورة في الأطر الضيقة لهذه الدنيا المُظلِمة.
عندما ننفرد بالقرآن الكريم في فهم آياتهم دون استنادٍ علمي كامل إلى أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) فإنَّنا لن نصيب من الحقِّ غير رسمه، بل غير بعض رسمه!
لذا قال الأمين (صلَّى الله عليه وآله): “ما إن تمسكتم بهما…”، لا بـ(أحدهما)، ومن هنا كان التهاونُ في الأخذ بالحديث واستهانةُ رفض وردِّ ما ترفضه العقلية الثقافية، خنجرًا مسمومًا ذا شعبٍ مُشرشرة يمزق خواصر التدين في مجتمعاتنا الإيمانية.
أصبح الاتهام بالغلو قصيدةً يتلوها بعضُنَا علينا، بعد أن كنَّا نرأف بحال المخالفين لفهمهم الساذج لمعنى الغلو!
قلتُ قبل قليل أنَّنا لا نطلب مواجهة مع أحد ولا نسعى لشيءٍ من ذلك، ولكنَّ الواقع اقتضى أن يُظْهِرَ عُلمَاؤنَا عُمْقَهُم العلمي لإنارتنا بنور أهل البيت (عليهم السلام).
قال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ): “ إذا ظَهَرَتِ البِدَعُ فِي أُمَّتِي فَليُظْهِر العَالِمُ عِلْمَهُ، فَإنْ لَمْ يَفْعَل فَعَليهِ لَعْنَةُ اللهِ”، ولهذا العالم الذي يكون صمَّام أمانٍ في الأمَّة صفة رئيسية، هي علمه بزمانه من مختلف الجهات، وهو قول الإمام الصادق (عليه السلام): “العَلِمُ بزمانه لا تهجم عليه اللوابس”.
يحتاج المقامُ مِنَّا الرجوعَ لفَوَاعِلِنا الوَلائية التي فُطِرْنَا عليها بِفطْرَةِ الطِينَةِ المُبَارَكَة.
عن أبي جعفر وأبى عبد الله (عليهما السلام): إنَّ اللهَ خَلَقَ مُحَمَّدًا مِنْ طِيَنةٍ مِنْ جَوهَرَةٍ تَحْتَ العَرْشِ، وأنَّه كان لطينته نَضْحٌ فَجَبَلَ طِينَةَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) مِنْ نَضْحِ طِينَةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ)، وكَانَ لِطينَةِ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) نَضْحٌ، فَجَبَلَ طِينَتَنَا مِنْ فَضْلِ طِينَةِ أميرِ المؤمنين (عليه السلام)، وكان لطِينَتِنا نَضْحٌ، فَجَبَلَ طِينَةَ شِيعَتِنَا مِنْ نَضْحِ طِينَتِنَا، فَقُلُوبُهم تَحِنُّ إلينا، وقُلُوبُنَا تَعَطَّفُ عَليهِم تَعَطُّفُ الوَالِدِ على الولد. ونَحْنُ خَيرٌ لَهم، وهُم خَيرٌ لنَا، ورَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ) لنا خَيرٌ ونَحْنُ لَه خَيرٌ”.
هؤلاء -نسأل الله تعالى أن نكون منهم- هم الناجحون الناجون في اختبار أمر أهل البيت (عليهم السلام).
عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: “إنَّ حَديثَنَا هذا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُ الرِجَالِ فَمَنْ أَقَرَّ بِهِ فَزِيدُوهُ، ومَنْ أنْكَرَهُ فَذَرُوهُ. إنَّه لا بُدَّ مِنْ أنْ تَكُون فِتْنَةٌ يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ حَتَّى يَسْقُطَ فِيهَا مَنْ كَانَ يَشُقُّ الشَعْرَ بِشَعْرَتَينِ، حَتَّى لا يَبْقَى إلَّا نَحْنُ وَشِيعَتُنَا”.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “إنَّ أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لا يَحْمِلُهُ إلَّا عَبْدٌ مُؤمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلبَهُ للإيِمَانِ، ولَا تَعِي حَديثَنَا إلَّا صُدُورٌ أمِينَةٌ وأحْلَامٌ رَزِينَةٌ”.
وعن أبي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قال: “إنَّ حَديثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، أجْرَدٌ ذكوانٌ، وعْرٌ شَريفٌ كريمٌ، فإذا سمعتُم مِنْهُ شَيئًا ولانَتْ لَهُ قُلُوبُكُم فاحتَمِلُوهُ واحمدُوا اللهَ عَليهِن وإنْ لَم تَحْتَمِلُوهُ ولَمْ تُطِيقُوهُ فَردُّوهُ إلى الإمامِ العَالِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ)؛ فإنَّمَا الشَقِيُّ الهَالِكُ الذي يَقُولُ: واللهِ مَا كَانَ هذا. ثُمَّ قال (عليه السلام): يا جَابِرُ، إنَّ الإنْكَارَ هُوَ الكُفْرُ باللهِ العَظِيمِ”.
عندما فتحنا المجال أمام الوساوس من التشنيع والتهمة التي ما تركها المخالفون ضدَّنا يومًا، امتد الأمر إلى أن فهمنا لإسلامنا بات بحسب مقاسات الآخرين، فنحن اليوم نُنكِر ثوابت إسلامية كي لا يُقالُ عنَّا إرهابيين أو غير سلميين! والحال أنَّ في صميم الإسلام ما هو بحسب مُختلقات اليوم إرهاب وعنف ولا سلم!
كيف نصنع مع هذا الواقع؟
السؤال خطأ.
لماذا نتراجع دائمًا إلى حالات الدفاع؟
لا نريد مهاجمة أحد، ولكن لا ينبغي أيضًا أن نكون مدافعين على طول الخط، وخصوصًا أنَّ الداعي للدفاع في خصوص ما يدور حوله المقال غير موجود أصلًا.
عندما نَقِفُ على مباحث الماهية والوجود وما يَترَكَّبُ منه الموجود المتشخص خارجًا، ومباحث عَالَمَي الثبوتِ والإثبَاتِ، فإنَّنا حينها نُمْسِكُ قويًا بناصية الحقيقة، فنعي الفرقَ بين القتل قِصَاصًا والقتل تَعَدِّيًا، وإرهاب الحرب المُحِقَّة وإرهاب المجرمين؛ فالماهيات مختلفة ومُرَكَّب الفعل مُتغير بحسب النية والدافع، وهذه بحوث جليلة يحتاجها المؤمِنون اليوم ليقوموا بدينهم بنفوس مطمئنة زكية.
السيد محمَّد علي العلوي
20 شعبان 1438 هجرية