تكرّرت الذنوب والخطايا من إخوة يوسف عليه السلام، وبحقّ من؟ بحق أبيهم نبي الله يعقوب عليه السلام، وبحق أخيهم نبي الله يُوسُف عليه السلام وأخيه، وظلم ذوي القربى أشدّ وأعظم، وقد تنوّعت خطاياهم وأصروا عليها، ولم يتوانوا في ارتكابها، مع علمهم بذلك، لكنهم سوّفوا التوبة كما أشرت في مقال سابق..
قال تعالى: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)[يوسف/٩].
داخلَ قلوبهم الغيرة والحسد لأخويهِم، وبادروا بإصرارٍ للتخلص من يوسف، ووسموا أباهم بالضلال، ثم خطّطوا ودبّروا الأمر، ونفذوا عملية التخلص من نبي الله يوسف عليه السلام، وفي طريقهم هذا كذَبوا على أبيهم، وغدروا بأخيهم، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، فدلسوا الحقيقة على نبي الله يعقوب عليه السلام، والذي كان عالما بما جرى ولم يصدقهم، قال تعالى: (وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف/١٨].
مرت السنوات ومكّن الله نبيه يوسف عليه السلام في مصر، وجاء إخوته ليكتالوا في السنوات العجاف، فدبّر أمرا ليُبقي أخاه معه، وإن كان قد اتّهم بالسرقة، لكنني أشير إلى إصرار إخوة يوسف على شينه والحط من قدره، إذ يتهمونه بالسرقة وهم يعلمون أنه لم يكن ليسرق أبدا، فيقولون حسبَ ما تنقله الآية الكريم: (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ)[يوسف/٧٧]، فاتهموهما بالسرقة.
تستمر كلماتهم الخاوية من الاحترام لأبيهم يعقوب عليه السلام، قال عزّ وجلّ: (قَالُواْ تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)[يوسف/٨٥].
يبدو أنهم خضعوا متأخّرين لما رأوا من آيات الله، فهذا يوسف عليه السلام قد بلغ ما بلغ من السمو، بينما كانوا في فقرٍ وضعةٍ وحاجة، وبعد أن عرفوا ذلك لم يتجبّر عليهم يوسف عليه السلام، وأرجع ما هو فيه من خير إلى الله تعالى الذي جازاه وأخاه على التقوى والصبر، قال تعالى: (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف/٩٠].
من بعد كلّ ذلك اعترف إخوة يوسف عليه السلام بأنهم كانوا خاطئين، فتجاوز عنهم ودعا لهم بالمغفرة، قال تعالى: (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف/٩٢].
وفي خطّ الرجوع إلى الله بقيادة يوسف وأخيه وأبيهم عليهم السلام، استمر العمل وجرت الأحداث الكثيرة التي لم أجد داعيًا يدعوني لذكرها، حتى أنهم أقروا لأبيهم وطلبوا منه أن يستغفر لهم، وإنه لكريم رحيم بأهله فوعدهم بأنه سوف يستغفر لهم، قال تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[يوسف/٩٧-٩٨].
مع كلّ ما ذكرناه بقيت نقطةٌ هي أساس حديثنا هنا، وهي رغم ما قام به إخوة يوسف عليه السلام، من ذنوبٍ وخطايا، وإصرارهم عليها حتى بلغوا مبلغًا من العمر، وتسويفهم للرجوع إلى الله، إلا أنهم عندما رجعوا كان لهم المجال مفتوحا للتوبة والإنابة، وقد تاب عليهم ودعا لهم يوسف ويعقوب عليهما السلام، وطلبوا من الله تعالى أن يغفرَ لهم، فلا ينبغي للإنسان أن يقنط من رحمة الله ما دام باقيًا على إيمانه به لا يشرك به شيئا، وإذ أُشير أنه ينبغي للمؤمن أن يبتعد عن مقارفة الذنوب إلا أنه حين يُذنب يجب أن يسعى للتوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى.
أشير أخيرا لأن المؤمن يجب عليه أن لا يأمنَ مكر الله، فالله إذ أمهلَ إخوة يوسف أو غيرهم ممن عادوا للحق وأنابوا، فإن الإنسان لا يمكن له أن يضمنَ ذلك، فإن الأجل إذا جاء لا يتقدّم ولا يتأخّر.
قال عز من قائل: (أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)[يوسف/١٠٧].
صدق الله العلي العظيم
محمود سهلان
الأربعاء ٢١ شعبان ١٤٣٨هـ
الموافق ١٧ مايو ٢٠١٧م