دار الحديث في مقال الأسبوع الماضي حول تحولات ثقافية تميزت بنقلها الإنسان من ضفة إلى ضفة مضادة، فهي ليست متعاقبة على نسق واحد، بل هي من الرفض الحاد إلى القبول الحاد، ويأتي ذلك في ضمن أمواج ثقافية هائلة القوة، إلى درجةِ أصبح مجرد التفكير في مواجهتها تخلفًا بلا كلام؛ فما يحدث اليوم يُسمى تطورًا، ولا شكَّ في أنَّ من يقف أمام التطور رجعي جاهلي!
توقفنا عند سؤال:
ما هو التطور؟ وما هي أماراته في الإنسان فردًا ومجتمعًا؟
التطور هو التحول من طور إلى طور، وأمَّا الطور فكلمة لها عدَّة إطلاقات، منها الحدِّ فيقال: كان على حدِّ الشيء، أو: بحذائه. وقد تطلق على المرَّة والتارة. وكذا تطلق على الحال والهيئة…
يبدو لي واضحًا أنَّ المراد من التطور الثقافي هو التحسين والتدرج والترقي، وقد وُجِّه -كما أفهم- لمصلحة تقليل الجهد في قبال الزمن، فكلَّما قلَّ الجهد المبذول وارتفع معدَّل الإنتاج في فترة زمنية أقل، كلَّما كان الإنجاز التطويري أكثر قوَّةً وانتشارًا، ومن هنا كان جهازا المذياع التلفاز تطورًا؛ فقد تجاوزا آلاف الأميال، ولم يعد الخبر في حاجة إلى أكثر من لحيظات حتَّى ينتشر في مختلف بقاع الأرض، وعلى نفس النسق ظهر التطور في أجهزة الحاسوب وما بعدها من هواتف ذكية وما نحوها، وقد ذكرتُ في المقال السابق مثالًا مباريات كرة القدم العالمية ومستوى تدفق الأموال فيها ومنها، وهذا يسير في نفس اتِّجاه التطور المقصود وبنفس المعايير. فتأمل جيِّدًا.
عندما نأتي إلى حالة التطور نجدهم يقولون: كن متناغمًا منسجمًا مع كلِّ جديد، وإلَّا فسوف تُرغم عن قريب على التعاطي معه صاغرًا.
ولكِنَّنا حينما نتحدَّث عن سيئات هذا النوع من التطور، مثل ضعف التواصل الاجتماعي والتراجع في فهم الإنسان للآخر وغيرها من الإخفاقات الأخلاقية والقيمية، فإنَّهم يقولون: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: لن نتراجع عن تطورنا، وأمَّا القيم والأخلاقيات فهي شأن نفس الإنسان فردًا أو جماعة، فالتطور لا يقول لك أخر صلاتك ولا يقول لك قصِّر مع أرحامك ولا يقول لك اخمل، ولا شيء مما تدَّعون!
يظهر أنَّ المشكلة مع (التطور) هي في واقعها مشكلة مع المعايير، لا مع نفس التطور من حيث هو انتقال من طور إلى طور، كما وأنَّها مشكلة مع جهة تحمل المسؤولية عندما تكون للتطور آثار أخلاقية أو قيمية سلبية، فمن يدعون إلى إطلاق التطور يرون مسؤولية الآثار المذكورة على نفس الفرد طالما أنَّ الجديد قد حقَّق خفض الجهد واختصار الوقت ورفع الإنتاج (لنا مع مفهوم الإنتاج وقفة في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى)، وأمَّا الجبهة الأخرى فتعارض معايير التجديد والانتقال من حال إلى حال.
لستُ أخفي أنَّني من الجبهة المعارضة لمعايير التجديد الذي يُسمى (تطورًا)، وبالرغم من أنَّني لستُ مقاطعًا لما تنتجه هذه الآلة الجبَّارة، إلَّا أنَّ ذلك لضعفي أمامها وعدم قدرتي على التواصل مع الآخرين ما لم أخضع لها، وهذا مع الإقرار تمامًا بما أعانيه من مشاكل ثقافية ونفسية بسبب هذا التسارع الهائل والذي أراه مخالفًا لفطرتي.
على أيَّة حال، فما أكتبه في هذه السلسلة هو في الواقع محاولة لتوثيق وجهة نظر مختلفة قد يكون لها مكانًا في مناقشات بعد سنة أو عقد أو ربَّما قرن..
أبدأ في المقالات القادمة -إن شاء الله تعالى- بطرح ما أعتقده في قضية التطور مع مقارنات مطردة تتيح للقارئ الكريم مساحة أوسع للنظر والتأمل، وأمَّا هذا المقال، وبعد تفكيك بعض المفاهيم، فإنَّني أختمه بمثال أناقشه في المقال القادمة بحول الله وقوته..
في سباقات الخيل يقطع الحصان القوي مسافة 1600 متر في دقيقة وخمس وثلاثين ثانية تقريبًا، وقد يكتشف المتخصصون تقنيات تدريبية أكثر دقَّة تحقق للحصان ثانية أو ثانيتين، ولكن بعض الجشعين الذين يريدون الفوز وفقط يعمدون إلى حقن حصان السباق بمنشطات معينة!
يعدو الحصانُ سريعًا.. يفوز.. تصفق الجماهير..
ولكنَّه وبسبب تلك العقاقير المنشطة قد يموت بسكتة قلبية أو يصاب بتلف في الخلايا أو بأمراض تمنعه من السباق، وأكثر..
لماذا؟
هذا ما أناقشه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
السيد محمَّد علي العلوي
2 جمادى الثانية 1437 هجرية
12 مارس 2016 ميلادية