عندما نقول (علم) فنحن حينها نتحدَّث عن بناءٍ لمجموعة من المُدركات تنتظم في أسس وأركان باختلالها يختل البناء، وهذا جار في كل (معلوم) مهما دَقَّ، فالعلم بـ(الكتاب) -مثلًا- قائم على العلم بالجسم والحدود والشكل الهندسي والورق والحبر والحروف وما نحو ذلك مما يحقِّق صورة الكتاب في الذهن، ولو أضفنا قيد (إلكتروني) للكتاب لتغيَّرت مُقدِّمات العلم بحسب هذا البناء الجديد، ولكنَّ جوهر (الكتابة والمكتوب) لا يمكن أن يتخلَّف عن البناء الصوري أصلًا، وإلَّا لما كان بناءً.
وعندما يكون الكلام في التعاطيات الاجتماعية، فالأمر يعود إلى نفس الشرط التكويني الذي أشرتُ إليه قبل قليل، وهو وجود حقائق خاصة لا يمكن تجاوزها في عموم بناءاتنا، وهنا أضرب مثلًا بالصدق، فالصدق في المجتمع قيمةٌ تقوم عليها العلاقات الاجتماعية، وباختلال ميزان الصدق، نفقد الكثير من طبائعنا الإنسانية، ومن أهمها الألفة والاجتماع.
يقول بعضُ منكري الثوابت بإمكانية تحول الصدق إلى سيئة في مجتمع من المجتمعات.
هذا أمر لا يصح أبدًا، فالصدق شرط في سلامة المجتمع، وبفقدانه تنهدم الكثير من العناوين الاجتماعية المهمة، وعلى رأسها الثقة التي تقوم عليها العلاقات الزوجية والأُسرية، وعلاقات الصداقة والعمل والتجارة وغيرها.
نواجه اليوم حالة ثقافية تقوم على التشكيك في كلِّ شيءٍ، وتعتبر الاطمئنانَ موتًا يفرُّ منه العقلاء؛ مفسرين ذلك بأنَّ اليقين يعني التوقف عن البحث، والتوقف عن البحث موت!
وهذه أيضًا رؤية غير صحيحة، فالبحث عن الحقيقة ما كان ليكون لو لا غاية تدفع إليه، كما وأنَّ الحقيقة مفردة في بناء هائل بحجم هذا الوجود، وكل حقيقة فإنَّ الإنسان يرتقي بها إلى أخرى، وهكذا، فنفهم أنَّ قول الله سبحانه وتعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ الْيَقِينُ) يعني: كل اليقين، وذلك بعد تحصيل مفرداته ومكوناته في هذه الدنيا بمختلف مصاديق العبادة.
نحن كمجتمع إنساني نؤمن بالثوابت ونعي ضرورتها ودورها في استقامة الأحوال، ولكنَّنا وبالرغم من كوننا نحن، إلَّا أنَّنا لا نُديرُ أنفسنا، والذي يديرنا هو المقصد السياسي وما يقتضيه، فلو كان في مصلحته تحويل المجتمع إلى مجتمع ديني مسجدي كنائسي ديري، لوضع الخطط والاستراتيجيات لأخذه في هذا الاتِّجاه، ولو أراده بعد ذلك مجتمعًا متحلِّلًا يمارس الرذيلة في أبشع صورها، لسعى من أجل تحقيق مراداته، وفي هذا الطريق تُوَظَّف الآلة الاقتصادية لتحريك الإعلام والمدارس والجامعات والمعاهد لإبداع مناهج تُوصَفُ بـ(العلمية) وتوظيفها في تربية المجتمع بحسب ما يراد إليه!
كرة القدم.. لعبة جميلة فيها الكثير من المهارات والفنيات والرشاقة، ولكنَّني أتساءل..
هل تستحق كرة القدم كل هذه المليارات؟
كيف تمكَّنت كرة القدم من استقطاب الرجال والنساء صغارًا وكبارًا، أكاديميين وفلاحين.. و(حشَّاشين) وسياسيين؟
لماذا وقع الاختيار على أسبانيا.. ريال مدريد وبرشلونه؟ وقد يقع على بلد آخر في مرحلة قادمة..!
عناوين كبيرة جدًا تتحول بشكل مُرَكَّز فتتدفق في اتجاه واحدة لتنتهي في حدود مستطيل أخضر يحتوي على مليارات تختزلها كرةٌ ورشاقةُ جسمٍ وأقدام، ثُمَّ من هذا المستطيل الأخضر تتحركُ مليارات أخرى فتتوزع على شركات الإعلان والفضائيات ومصانع الألبسة وغيرها.. والغريب أنَّ معارك مسلحة ومقاومات شعبية وثورات تتوقف بشكل ملفت في وقت المباراة!
ما هي القيمة التي تمتلكها لعبة كرة القدم بحيث تمكنت من حصر العالم في أطرها الخاصة ولمرات متكرِّرة أسبوعيًا وشهريًا وسنويًا وكل أربع سنوات؟
هذه حالة ثقافية قد يُنظر إليها مستقلة، ولكنَّها في الواقع تتداخل مع حالات أخرى لتشكل وضعًا ثقافيًا مطلوبًا لغايات سياسية معينة.
كيف كان آباؤنا ينظرون إلى لعبة كرة القدم، وكيف ننظر إليها نحن وأولادنا اليوم؟
في السابق كانت هذه اللعبة غير مناسبة للكبار، فماذا تعني هذه (التنمبة) أصلًا؟
أمَّا اليوم، فمن مظاهر الرقي والتحضر أن يجتمع الكبار والصغار في سهرة تلفزيونية لمتابعة (الكلاسيكو).. وبعد أن كانت كرة القدم ضياعًا لمستقبل الشباب، أصبحت اليوم هي المستقبل بملايينها وما تعطي من وجاهة ومحبة في قلوب الجماهير.
السؤال: ما الذي غيَّر هذه النظر وبهذا الشكل الكبير؟
ومن أدخل كرة القدم إلى غرف نومنا من خلال (playstation) وأخواتها؟
لا بدَّ من تحديث ثقافي أدَّى إلى مثل هذه التحولات وغيرها، كما ولا يتصور العقل التحليلي حركةً بهذه الضخامة تتبلور بلا محرِّكٍ يبعث عليها، فما الذي حُدِّثَ، وبأي دافع؟
يقولون: من لا يواكب التكنلوجيا باختياره اليوم، فسوف تفرض نفسها عليها عمَّا قريب، ولن يملك غير أن يتعاطاها مختارًا كان أو مرغمًا!
حركة متغيرة هائلة تجتاح العالم البشري في مختلف الاتِّجاهات وعلى مختلف المستويات والأصعدة، فما عاد لشيء أدنى ثبات إلَّا هذه الحركة الهائلة، فمسألة أنَّها في حركة مستمرة هو الأمر الثابت في عالم اليوم، ولذلك فلو شئت النجاة شيِّد بناءك الفكري على ثابتة أن لا ثبات.
كانوا بالأمس يسخرون جدًّا من عقول تستهويها جلدية مستديرة في مستطيل أخضر، فيقولون: كرة تجري ورجال تركض وراءها!
أمَّا اليوم فيدفع المستثمرون مئات الآلاف من الدولارات لواحد من (الركيضة).. تغيرت الموازين تمامًا وأصبحت عباءة الرأس أمارة على التخلف والجمود، بعد أن كانت شعارًا للرصانة والحشمة، وفي المقابل ها هو طوفان التغيير يُنكِرُ على النحاة دفاعهم عن الإعراب والبناء، ويقول واثقًا وبثبات: أنتم من أوهمتم الناس بأنَّ المبتدأ لا بد وأن يكون مرفوعًا، والحقُّ أن المستمع يفهم المعنى من السياق والقرائن الحافة، وما نحوكم إلَّا جمود وتخلف لن يصمد طويلًا أمام حركة الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.
كان الكتاب ورقًا تعلوها حروف تُقرأ.. اليوم لا كتاب كما كنا نفهم، وليس بالضرورة أن يُقرأ، فهناك الكتاب المسموع، ولا أدري، فقد يأتي زمان تنقل فيه الأشعةُ الكتاب إلى العقل دون قراءة، وربَّما حلَّت الأمر شريحةُ تُلصف على مكان ما من جسم الإنسان..
هذا تطور.. وبعد ان كنَّا نقرأ الكتاب في أسبوع، فبفضل التكنلوجيا والإبداع البشري صار مقدورًا أن نأتي عليه في يومين أو أقل، فلِمَ تحاربون التطور؟
انتظرْ يا أخ.. لا تسترسل قبل أن تُعرِّفَ لي التطور، ما هو، وما هي أماراته في الإنسان فردًا ومجتمعًا؟
أَنتَظِرُ بيانك في الأسبوع القادم، فانتظرني..
السيد محمد علي العلوي
5 مارس 2016 ميلادية
24 جمادى الأولى 1437 هجرية