من الكاتبات البارزات في الصحافة المحلية والعربية الأستاذة لميس ضيف، فهي تمتلك فكرًا واضح المعالم يؤازره قلم طيع يعكس ما تحمله من أفكار وقناعات بكل انسيابية ورشاقة، وهذه ميزة أغبطها عليها كما وأرجو من الله العلي القدير أن يسددها على طريق الخير دائمًا.
هذا ومن الطبيعي بل ومن الصحي جدًا أن يختلف الناس فيما يحملون من أفكار ورؤى، والحق أن هذا الاختلاف لو أدير بالعقل والحكمة فمن شأنه إبداع أفكار أكثر نضجًا وأثقل وزنًا، ولهذا أجدني أكتب بعض الملاحظات التي أراها موضوعية في مقال الأستاذة لميس ضيف حول مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) “كم مرّة ظُلم الحسين.. وبكم سيف ذُبح؟“[1].
أستهلت الكاتبة الموقرة مقالها بمقتبس من كتاب المفكر الإسلامي الشهيد مطهري (رحمه الله) يبين رأيه في مواقف يذكرها ويرى أن الحسين (عليه الصلاة والسلام) ظلم فيها، ومنها المنبر الحسيني، فيقول: “أما الثالثة فعندما استشهدت أهدافه على يد أهل المنبر الحسيني، وكان هذا هو الاستشهاد الأعظم“.
ثم تبدأ الأستاذة لميس ضيف باستعراض رأيها في الخطاب المنبري الأعم من الخطابي والإنشادي فتقول: “فالحسين ظُلم بما نسب له من أساطير وروايات قاصرة عن أن تصبح تاريخاً يألفه أو يقبله العقلاء. ظُلم لأن تلك الروايات عتمت على أهداف ثورته ومقاصدها.. ظُلم؛ على يد الرواديد ومن اعتلوا منبره ونسبوا له – ولأهل بيته- حوارات ومواقف وهمية ملؤها الانكسار لاستدار الدمع. فصوروه – وهو المحارب الجسور الذي افتدى مبادئه بروحه ودمه – وهو يلتمسُ الماء بكل ذلٍ ومهانة من أعدائه، وصوّروا زينب -الطود الشامخ- التي دخلت على الطاغية يزيد فزلزلته بخطبتها؛ على أنها امرأة جزعة بكآءّه تثبّط همة أخيها في الحرب، وتثنيه عن القتال !!؟“
وهنا لي رأي قد يكون توجيهيًا لا أكثر..
إن الخطاب المنبري خطاب حر يصعب تقنينه، بل وقد تواجه أي محاولة تقنينيه بمعارضة شرسة تسحق المقنن وما يحمل من نيات حسنة كانت أو سيئة، والسبب أن الفكرة القائمة هي أن المنبر خط مقدس يرعاه المعصوم (عليه السلام)، ومن يرتقيه خطيبًا كان أو رادودًا فهو خادم للقضية وخدمته هذه منظورة أيضًا بعين المعصوم (عليه السلام)، وعليه فإن من يحاول النزول في قباله بما يشكك في شيء منه فإنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة مع أصحاب القضية وهم أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وهذا فيه ما فيه من نتائج وخيمة قد تصيبه وتمتد في عقبه وذريته..!!
إننا أمام حالة فكرية يرتاح لها المجتمع بعد أن أوجدت العديد من الظروف قالبًا مناسبًا لها، فالقضية ليست في خروج المنبر عن النص الواقعي وحسب، ولكنها قضية ثقافية كبرى تلعب فيها السياسة والاجتماع والاقتصاد دور المنظم لحالة فكرية أريد لها أن تكون هكذا، لذا فإن الذي أراه هو عدم جداوئية النقد من خارج التيار التديني، والأستاذة لميس ضيف ليست من هذا التيار، وهذا لا يعني التقليل من شانها والعياذ بالله، فهي إنسانة تحمل فكرًا واضح المعالم كما أسلفت، ولكنني أتحدث بحسب الواقع وبالنظر إلى بوصلة التوجيهات النفسية للقراء من داخل الإطار الذي تستهدفه الكاتبة، والمؤلم في الأمر أن مقال الأستاذة لميس ضيف من شانه أن يسد نفس الكثير عن قراءة مقالاتها الهادفة، والحال أن المجتمع في حاجة إلى توعيتهم سياسيًا واجتماعيًا وما نحو ذلك، فالتزاحم في المقام يقضي بأن لا تتعرض الأستاذة لميس ضيف لقضايا مثل هذه القضية بشكل يستفز الرجال والنساء ويبعدهم عن عطائها الفكري الرائع، وهذا لا يعني الحجر على ما تحمل من فكر ورؤى، فهي قادرة على التنظيم الإيجابي والموضوعي مع أقلام من داخل الحسينيات بل وممن يتشرفون بارتقاء المنبر الحسيني بتداول مشاكل الخطاب الديني عمومًا، وبذلك قد تكون إصابتها للأهداف الإصلاحية أكثر دقة وأثقل وزنًا، وفي نفس الوقت هي تحافظ على قرائها.
إن هذه الفكرة لا تُجر ولا تسحب على باقي خطاباتها التي تستهدف شرائح أخرى من المجتمع؛ فالذي نحن فيه أعمق من فرقة هنا وفريق هناك، هذا بالإضافة إلى أننا تعبنا بل واستهلكنا بسبب الخطابات ذات النظرة الأوحدية التي ترى الآخر محض الخطأ بعد أن وجدت نفسها على خط الصح المطلق، وهذا –للأسف- ما يفهم من مقال الأستاذة لميس ضيف.
بعد ذلك تفضلت الكاتبة: “ظلم، وأي ظُلم هذا، عندما حُوِّلت ثورته الراقية على الوحشية لمناسبة لتعذيب وجلد النفس.. بدأها ”التوابون” من أهل الكوفة بعد استشهاده عندما جلدهم الندم لمّا سمعوا بقتل الأمام الذي كاتبوه وبايعوه للخروج على يزيد ومن ثم خذلوه.. فخرجوا في مواكب يشقون فيها الرأس ويعذبون أنفسهم ندماً على ما فعلوه بالإمام وصحبه.. وتوارثت أجيال الشيعة هذه الطقوس التي لا تتناسب مع ثبات المؤمن وصبره بل وسعت لتبريرها بنسب الفعل للسيدة زينب التي قيل عنها – وحاشاها- أنها شقت الجيب وشجت رأسها حزناً على أخيها؛ حتى جاء المراجع الكبار فحرّموا هذا الطقس ”وعلى رأسهم السيد الخامنئي” فعُلق حتى في إيران لما فيه من تشويه للمذهب؛ إلا أنه مازال يمارس كل عام مُلبساً ثورة الحسين ما ليس فيها، ومستدراً على منهاجه السوي النقد والتقريع وازدراء العالم!!
ظُلم..عندما زُج بمظاهر الغلو في مجالسه.. وظُلم عندما اتخذت مجالسه وسيلة لترسيخ الفروقات بين الأمة المحمدية التي بذل روحه لجمع شتاتها والحفاظ على هويتها.. وهو ما عبّر عنه آية الله مكارم الشيرازي ذات حديث عندما قال: “ما زُجّ بمظاهر الغلو في مجالس الحسين – إلا- ليقلصوا من مكانة وعظمة هذه الواقعة الخالدة”.”
الأستاذة لميس ضيف..
أريد ويريد الكثيرون الاستمتاع بما تكتبين والاستفادة مما تثيرين، ولكنك ولغير مرة تتعرضين إلى مقام يمثل في فكرنا الامتداد الشرعي لحجية المعصوم (عليه السلام) وهو مقام المراجع الكرام (رحم الله الماضين منهم وأدام الأحياء ظلًا ظليلًا على رؤوسنا)، فما نقوم به في ذكرى مظلومية أهل البيت وخصوصًا الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) يحوز على مرتبة الندب وربما الوجوب الكفائي عند السواد الأعظم من الفقهاء الكرام، هذا ونُجِّلُ من يحرم شيئًا منه على اعتبار أن تحريمه جاء نتاجًا لنظر فقهي هو حجة عليه ومن يقلده من الشيعة الأفاضل، فالقضية في ثقافتنا ليست قضية كيف وهوى، أو استحسان وذوق، ولكنها قضية تستند إلى رأي فقهي لا نقبل التعدي عليها بهذه البساطة، نعم، من تمام حقك إبداء رأيك المعارض لما هو عندنا من صميم الشعائر الإلهية، ولكن أن يكون بعناوين كالظلم وجلد النفس وتعذيبها وما نحو ذلك، فهذا ليس مما ننتظره من كاتبة تريد الإصلاح والتصحيح.
نعم، كما أن للمرجع الخامنئي (دام ظله) رأي واضح في قضية التطبير، فلمراجع آخرين رأيهم الواضح في رجحانه واستحبابه، فإذا أجزنا للمحرمين عدم الاقتناع بأدلة المجيزين فمن الإنصاف أن نجيز للمجيزين عدم الاقتناع بأدلة المحرمين، وهذا ما نريده في إدارة خلافاتنا بشكل عام ناهيك عن تلك التي تستند إلى رأي شرعي محترم.
لو تجاوزنا الرأي الفقهي قاصدين الوصول إلى التشويه الذي أحدثه التطبير في المذهب فإننا لن نجد شيئًا من ذلك إلا ادعاءات من أولئك الذين لا يرضون عنا حتى نتبع ملتهم سواء تركنا التطبير أو حتى تركنا زيارة عاشوراء والأربعين، بل وحتى لو مزقنا مفاتيح الجنان وسجدنا على المأكول والملبوس!!
مواكب التطبير تخرج في كل عام مرة أو مرتين لبضع ساعات، والعالم يتحدث عما يسمونه بالمد الشيعي وانتشار عقائد الإمامية في الأمصار والبلاد، فأي تعطيل تسبب به التطبير لهذه الحركة التوعوية في العالم؟
هل يقال بأنه لو توقف التطبير لزاد الهداة المهديون؟
أقول: ومن يرد مذهبًا أصيلًا كمذهب التشيع لغير نقد في أصوله فهو في واقعه بعيد عن الهداية الواعية، فالحديث عن التطبير لا يثار إلا قبيل العاشر من المحرم، ومن بعد ذلك تستمر الحياة وينسى السيف ودم الهامات، فهل القضية قضية رفض وحسب؟
ثم أيها أولى بالحديث والإثارة، هذا الذي تتفضلين به أو:
إساءة الكثير من الشباب لقضايا أهل البيت (عليهم السلام) التي تدافعين عنها هنا، وذلك بسفور النساء ولبسهن الضيق وإظهارهن لزينتهن، وبلبس الشباب لما يشين حتى لعاداتنا كشرقيين محافظين؟
إساءة مجتمع بأكمله للدين بأكمله عندما يسكت عن بيع الخمور وإقامة حفلات الرقص والغناء؟ ألا ترين من تعارض بين من يرفع راية الإسلام ويسوق لما يحرمه الإسلام؟
هل أن التطبير أشد وطأة على الدين من هذ المخالفات الصريحة؟
قد يقال بأن أحدًا لم يقل بدينية السفور والخمور كما هو الحال في التطبير، فيأتي الجواب بأن القضية ليست هنا، ولكنها في ادعاء ونقض لغرضه في آن واحد، فالخوف على الدين إن كان من التطبير، فهو من ادعاء الدين ومخالفته بالسكوت عن المنكر الصريح من باب أولى.
الأستاذة لميس ضيف..
عندما تتحدثين عن الخطباء والرواديد فإنني معك جدًا في ضرورة التحرك الجاد بحملات توعوية واعية تفرض على المنبر مسؤولية الارتقاء بالعقول من خلال الطرح المتين والموضوعية في تناول القضية الكبرى لأهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ولكنك عندما لا ترين ولا تعتبرين المكانة الدقيقة جدًا للمقام المرجعي في الفكر الشيعي فهذا أمر من حقنا رفضه ومطالبتك ككاتبة مثقفة واعية بمراجعته مراجعة متزنة جادة، وهذا لا يصادر حقك في أصل إبداء الرأي مهما كان مخالفًا لما نحمل من قناعات.
في نهاية هذا المختصر اتوجه بالسؤال إلى الكاتبة المحترمة الأستاذة لميس ضيف:
إذا اختلفتِ مع أحد في رؤية أو فكرة أو قناعة، فهل هذا يعني مواجهتك له بقسوة في الألفاظ وتصغير وتسخيف لما يحمل هو من رؤى وفكر وقناعات؟
أوليس الطرح الموضوعي المجرد هو من أتم مصاديق احترام الفكر وتقدير العقول؟
مع خالص التقدير وصادق الدعاء
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1] – نشر المقال على موقع الكاتبة http://www.lamees.org/articles2/p2_articleid/328
السيد محمد علي العلوي
20 محرم 1432 هجرية
26 يناير 2010