هكذا أرادها الإنسان مُصرًّا لا يفكر في التراجع عن ما هو عليه بالرغم من سيل التجارب التي يقدمها لنا التاريخ من لدن أول حكومة بدائية وحتى اليوم، فلا حكومة ولا دولة ولا حضارة إلا وخضعت مرغمة إلى سنة الزوال فالتحول إلى تاريخ يدرسه البحاثة لأغراضهم العلمية، وخلفهم يتصارع الجهال على كان ولم يكن!!
كان ولا يزال الإمكان قائمًا بأن تستمر حكومة وتبقى دولة وتدوم حضارة شريطة الامتزاج المتقن والمحكم بالمتغيرات المتتابعة والقدرة على تكييفها من جهات والتكيف معها من جهات أخرى، وهذا يحتاج إلى مقدمات إنسانية لا استقامة لها إذا ما نازعتها صرعات الملك والتسلط، وهذا ما لم تتقنه حكومة على مر التاريخ، وإن تمكنت في ظهارة فريدة فإن الناقض لها يأتي من بطنها، وأشهر شاهد حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي ضربت في مقتل ساعة رحيله عن هذه الدنيا بعد التجهز للضربة من قبل.
ولأن الإنسان في مجتمعه عاجز – بما كسب – عن تقويم نفسه واحترامها فإنه لم يتمكن من تسجيل حالة نجاح واحدة بأن استمر في حكومة أو دولة أو حضارة، ولكنه يثبت كل يوم أنه ومهما ارتفع شأنه واتسعت مساحات وميادين سلطته فإنه إلى نكوص لا محالة، والسبب هو لا غير، ولذلك وإن اختلفت النظريات إلا أنها متفقة تمامًا على حتمية الزوال، وهذا ما نجده عند ابن خلدون وفيكو واشبنجلر وتوينبي وغيرهم من علماء التاريخ وفلسفتة الذين اجتهدوا فاستنطقوه فظفروا منه بأنماط الوقائع والأحداث تقارب الإحكام إلى حد كبير جدًا.
لن تدوم دولة لأن القائمين عليها لا يريدون البقاء، وعندما تخنقهم الأنماط فإنهم يفضحون أنفسهم بجدارة عندما يشطحون يمنة ويسرة في قرارات وتصرفات توهم بالقوة والبأس والتماسك، ولكنها في الواقع من أقوى الأدلة على قرب انتهاء الدورة لتبدأ دورة جديدة، وهكذا هي لا تتبدل ما دام الإنسان يصر على جهله وغباوته بتطرف مفرط، ولأن المشهد معروف فإن الكلام لا ينبغي أن يكون فيه إلا بقدر المتابعة لا أكثر، أما ما نحتاج إلى المبالغة في تداوله والجدية في مناقشته فهو حكمة السلامة من طاحونة التغيير وهيستيريا الموت خصوصًا إذا كان الزمن زمن الظلم والجور والعنتريات والاجتهادات مع البعد الكبير عن قراءة الصادقين (عليهم السلام)، وهنا أتوقف قبل السلام..
عن سدير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): “يا سدير، إلزم بيتك وكن حلسًا من أحلاسه، واسكن ما سكن الليلُ والنهارُ، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك”.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: “إنه سيكون من بعدي فتنة، القائِمُ فيها خيرٌ من الساعي، والجالِسُ خيرٌ من القائم، فاقطعوا أوتار قِسِّيِكُم، واغمدوا سيوفكم، وكونوا أحلاس بيوتكم”.
لا شك ولا شبهة أننا لا نتمكن بل لا يجوز لنا الركون إلى هذه الطائفة من الروايات وإغفال أخرى تتحدث عن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتفرع عنهما من قول كلمة حق عند سلطان جائر، وما شابه مما يحث تارة ويأمر أخرى بجهاد الكلمة والموقف وربما السيف إذا ما توفرت شروطه، ولذلك فإنه لا بد من الجمع الذي يقتضي الوعي إلى أن لكل واقعة موقف ولكل حدث قرار، فإن الاستمرار على المواجهة المباشرة إنما هو عَوَرٌ كما أن الاستمرار على الجلوس عَوَرٌ أيضًا.
“وكونوا أحلاس بيوتكم”..
قال ابن منظور في لسان العرب: “الحِلْس: كِساءٌ يكون على ظهر البعير تحت البرذعة؛ ويُبْسَط في البيت تحت حُرِّ الثياب، وجمعه: أحْلاس وحُلُوس وحِلَسَة”
فأن يكون المؤمن (حِلسَ بيته) فهذا في واقعه مسؤولية عظيمة جدًا، وليست حالة سلبية كما يتوهم البعض؛ إذ أن (الحلس) إنما هو حام وصائن ومسؤول عن سلامة ما يكون عليه وما يحمل فوقه، فالأمر من المعصوم (عليه السلام) يكاد أن يكون نصًّا في التحول من جهاد العدو إلى جهاد البناء بصيانته وتقويته وتوفيره على الاستعداد المطلوب لخوض مراحل جديدة من الدعوة إلى دين الله تعالى لما فيه هدى الناس ورشدهم والخروج بهم من الظلمات إلى النور، وهذا من الغايات الرسالية السامية التي شرف الله بها المؤمنين وأيدهم بعناية القائد المظفر المهدي المنتظر (أرواحنا فداه).
لذا، فإن القراءة الموضوعية الهادئة والمجردة والجادة لا غنى عنها كمقدمة واجبة لاتخاذ المواقف المناسبة تجاه أحداث ووقائع الأيام.
السيد محمد علي العلوي
3 جمادى الأولى 1435 هجرية
4 مارس 2014 ميلادية