التقديس هو التنزيه، فالمقدس منزه عند من يقدسه، إلا أن استعمال هذا اللفظ من البعض في غير المعصوم (عليه السلام) لا تدعى فيه دعوى المعنى الحقيقي، ولكنه المراد هو بيان علو الشأن والمنزلة، وقد يُتسامح في ذلك على المستوى النظري بلا إشكال، ولكن الكلام في الواقع العملي ليس عند من يؤمنون بالتقديس على ميزان المجاز وحسب، بل حتى عند غيرهم ممن يتخذون لأنفسهم رموزًا يقدسونهم تقديسًا عمليًا وإن لم يصرحوا بذلك، ولك أن تتبع الناصريين في تعاطيهم مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الجيفاريين في تعاطيهم مع الثائر تشيفي جيفارا، والخمينيين مع الإمام الخميني (قدس سره)، والشيرازيين مع الإمام الشيرازي (قدس سره)، وغيرهم مما أعجز ويعجز غيري عن حصره، والمضحك في الأمر سيلانه حتى وصل إلى من يؤمن باللاعب الأرجنتيني (ميتسي) –مثلًا- كلاعب عالمي أول، فحتى هذا لا يقبل أن يقال عن لاعبه المفضل بأنه أخطأ في لعبة أو تمريرة!!
لن نتطور ثقافيًا وبالتالي فالتطور الفكري ممنوع ما دمنا نمارس هذا المستوى (المقيت) من التقديس العملي الذي طالما جرنا ويجرنا إلى الإرتماء في أحضان العزة الأخاذة لأصحابها بالإثم، وبسبب هذا التقديس فإن المُقَدِّسَ (بالكسر) ينظر إلى كل العالم على أنه ضال مضل غبي لا يفهم؛ فقط لأنه لا يرى ما يراه في (مقدسه)، كما وأن الباب مفتوح دائمًا للتبرير واختلاق التوهمات وتصويرها على أنها حقائق وبالتالي تضليل الناس، وكله في سبيل تصويب المُقدَّس (بالفتح) وإبعاده على أي نقد أو ما شابه، ومن أمهات الكوارث أن هذا النوع من التدني الثقافي عادة ما يصرف النقد عن موضوعه والرأي عن محله، ويشتت الجهود في مساحات ضيقة وزوايا حادة من الشد والجذب والتهمة والرمي.. وما هو السبب؟ إنه التقديس.
والأعجب حقًّا أن العقول تعمل بعبقرية لا مثيل لها، فتبرر وتحور وتلتمس التبرير في أضيق الزوايا، وأقول متعجبًّأ: لو أن هذه العقول (التبريرية) تلتفت إلى الفقه وأصوله، لتحول مجتمعنا إلى جبال شامخة من الفقاهة والإجتهاد!!
ولكن الواقع أن البعض ممن يعلم وممن لا يعلم، وممن يقرأ وممن لا يقرأ، وممن يدري وممن لا يدري، تتفتق جوانبه عن عقلية جبارة في التصويب والتبرير وقلب الحقائق بما يدخل الناس في تيه ثقافي وضيق فكري متعب جدًا، ولا شك في أن هذا مخالف جدًا لأبجديات الروح الرسالية والشخصية التبليغية المتزنة.. ولكنها مقتضيات التقديس..!!
بلى، لكل منّا رمز ديني أو فكري أو حزبي، أو ربما أكثر من رمز، وهذا أمر طبيعي ومطلوب على مستوى التنظيم الثقافي في المجتمع، وبما أنه (رمز) فالدفاع عنه مهم للحفاظ على رمزيته، ولكن الدفاع ليس لرد الهجمات الخارجية فقط، بل أن الأهم هو الدفاع عنه بتقييمه ومحاسبته ونقده ومساعدته على تصحيح أخطائه التي إن لم تصحح، وكان أن تكررت وتفاقمت آثارها، فلا مجال للإبقاء عليه كرمز تحت أي مبرر، خصوصًا إذا كانت انعكاسات الأخطاء كبيرة ومضرة على المجتمع وجماهير الناس، ولكن التقديس يمنع من مزاولة هذه الوظيفة التي يتوقف على دقتها صلاح البلاد والعباد (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
إننا نعيش امتحانًا دقيقًا جدًا في زمن غيبة إمامنا وقائدنا المهدي بن الحسن (أرواحنا فداه)، ولا استقامة إلا بإعادة القيم القرآنية والعتروية إلى واجهاتنا الثقافية والفكرية على المستويين النظري والعملي، ولهذه الخطوة أدوات تأتي في مقدمتها أداة النقد ومواجهة الخطأ بحسب ظرفه الموضوعي، ولا مكان للعصبيات وردات الفعل المأزومة والمتوترة و(التقديسية) خصوصًا من تلك الشخصيات الجماهيرية ذات التأثير في ثقافات الناس وسلوكياتهم
السيد محمد علي العلوي
12 محرم 1434هـ/ 27 نوفمبر 2012م