مسك أحدهم بطرف لسانه ثم قال: “هذا أوردني الموارد”، وكلامه دقيق جدًا إذا كان القول يتعلق بنفس القائل، فكيف إذا كانت انعكاساته وتأثيراته تستوعب مساحات وشرائح في المجتمع؟ لا شك في أن المسؤولية أعظم، والثواب أكبر إن كانت الكلمة كلمة إصلاح، وإن كانت كلمة فتنة وفرقة فالوزر بحبسبها، وأعاننا الله تعالى على ما ترتكب ألسنتنا من قبيح الأقوال..
يذهب البعض إلى أن حرية الرأي والتعبير مكفولةٌ هكذا في سياق (كما أن لك رأيك فلي رأيي)، وكل ما يقال يُبَرَّرُ بأنك قادر على القول أيضًا، فلا تحجر على أحد طالما أنك ترفض أن يحجر عليك أحد!!
في الواقع أن هذا النوع من البناء غير مقبول؛ فهو هادم لكل قيمة ومبدأ، إذ أنه يشيع حالة من الفوضى الثقافية والأخلاقية والأدبية، ولذلك نجد القرآن الكريم يولي الفكر أهمية كبرى خصوصًأ على مستوى التوافق بينه وبين الثقافة وقول اللسان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ *
كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، وفي آية دقيقة جدًا في توضيحها للمقصد من هذا المقال، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وفي نفس موضوع هذه الآية الكريمة يقول جل شأنه (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)، ناهيك عن الكثير من الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) والتي يقررون فيها ضوابط اللسان وحدود الحريات وما شابه.
بلى، من المتعذر جدًا ضبط القضية بين عموم الناس، ولكن هذا لا ينفي خروج غير المنضبط عن الجادة؛ إذ أن ضبط اللسان واختيار الوقت المناسب لطرح الرأي وأسلوب الطرح هي من الفواصل المهمة في شخصية المؤمن الموالي لأهل بيت الحكمة (عليهم السلام)، وكلها ترتكز في واقع الأمر على أسلوب الطرح وانتقاء الكلمات المناسبة لأدب وآداب الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ولو أن المتكلم لم يصب الوقت المناسب –مثلًا- فإن التمكن من أخلاقيات الحديث والأدب مع الآخرين قد يكون مما يسد الأخطاء الأخرى ويعالج آثارها، ولذلك نقف على سمو مذهل لأكابر الشيعة في حديثهم مع الآخرين مخالفين كانوا أم مآلفين، وهذا من مفاتيح الإطمئنان للشيعة من الجميع، وهو أيضًا ما دفع الحاقدين إلى وصفنا بالسحرة، والحق أن مفعول الأخلاق الحميدة يحسبه الجهلاء سحرًا، وهو في الواقع ليس إلا حالة توفيق بين منطق القول وفطرة الإنسان اللطيفة.
نفهم جيدًا بأن قتل النفس بغير حق حرام، كما ونفهم أيضًا بأن الخمر حرام، ولكننا نفهم كذلك بأن هناك من يقتل النفس المحترمة بغير حق، وهناك أيضًا من يشرب الخمر من المسلمين، ونعي جيدًا بأن أحدًا لا يتمكن من إحكام القضية وضمان عدم القتل أو شرب الخمر، ولكن يبقى القاتل مجرمًا وشارب الخمر مرتكبًا للمنكر، وبالمثل فإن قائل السيئة سيء في حدود موضوع قوله حتى مع التسليم بتعذر منعه من القول، ولكن يبقى التكليف بأن يشار إلى قوله بالرفض وعدم القبول بشرط أن يكون ذلك ببيان واضح يرتكز على موازين ثابتة لا تتبدل على الإطلاق إلا بدليل خاص، فالكاذب كاذب، والخائن خائن، والمتعدي على الآخرين بقول مستهتر فهو متعدٍّ، ولا مجال للتبرير بحجة حرية الرأي والتعبير، وهذه قضية ينبغي أن تُفهم جيدًا حتى نحافظ على مجتمعاتنا من الميوعة والفوضى.
كما وأنه من المهم جدًا أن يولى للبيان اهتمام جيد، فالكلام الذي يحتمل التأويلات وخصوصًا في مناطق المنعطفات الحادة قد يكون سببًا في الغرق والضياع، ولذلك فإن البيان مهم وإلا فتجنب القول أولى، خصوصًا إذا كان من المعروف عن القائل أنه صاحب مواقف أو آراء واضحة، فكلامه سوف يجر بما يوافق مواقفه السابقة قطعًا، وحينها لا يلومن إلا نفسه، وهذا لن يكفي المبررين له شر تحمل التبريرات الضعيفة.
همسة في الختام:
قد يصرح أحد عن عدم قناعته بأمر ما، وهذا من حقه، ولكن أن يحرم أو يحلل وهو ليس من أهل الفقاهة والاجتهاد فهذا تعدٍّ، وإن تجرأ برأيه وسخف آراءًا لفقهاء ومجتهدين فهذه جريمة بل وأكثر (…).
حرية الرأي مكفولة، ولكنها محكومة بضوابط ثابتة وقيم راسخة، ومن يتعدى حدودها فهو مرفوض قيميًا، ولا يبرر التعدي تعدي الآخر، فالقيمة قيمة ولذلك كانت قيمة.
السيد محمد علي العلوي
11 محرم 1434هـ/ 26 نوفمبر 2012م
*************
هذا المقال قد تم نشره على موقع (دنيا الرأي) .
يمكنكم الإطلاع عليه من خلال هذا الرابط :
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2012/11/29/278262.html