السيد محمد علي العلوي
كان الأمس يومًا حاضرًا بحلوه ومره وجميع أحداثه ووقائعه، ولكنه مر وتصرمت لحظاته حتى أصبح اليوم تاريخًا، ومثله اليوم الذي نعيشه واللحظة التي نحياها فإنها متصرمة لا محالة وعائدة إلى حالة تاريخية يتدارسها أبناء الغد.. إنها معادلة (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) التي من أدركها ووعاها وعمل بمقتضياتها بنى حضارة وحضارات، ومن غفل عنها وتجاوزها كما يتجاوز أي شيء آخر فإنه باق في صفوف المتخلفين يلهث وراء من فازوا بقصب السبق في ميادين الإبداع والانجاز.
لو أننا في مجتمعاتنا الصغيرة خمسين سنة خططنا إلى أن يكون عندنا طبقة من العلماء المستقيمين وأخرى من المؤلفين المقتدرين وثالثة من علماء الذرة وهكذا، وخططنا إلى أن تكون المساجد عامرة بالمصلين في كل صلاة، وأن تكون عندنا مراكز رائدة متخصصة في علوم القرآن والعترة، وكذلك خططنا إلى تحصيل الإكتفاء الذاتي.. إنني أتسائل: لو أننا خططنا لكل ذلك قبل خمسين سنة وبالبناء على أسس علمية صحيحة وبهمم رجال ونساء مؤمنين، كيف من المفترض أن يكون حالنا اليوم؟ ألن نكون قد أصبنا وعلى أقل التقديرات ربع ما كنا قد خططنا إليه من خمسين سنة؟
ولكن.. قبل خمسين سنة تثاقل الناس عن التخطيط بحجة أن الدنيا (تمشي) ووقائعها لا تنتظرنا لخمسين سنة، وبذلك أصروا كما نصر اليوم على أن يعيشوا يومهم ويعملوا من أجل لحظتهم ويعالجوا مشكلة ساعتهم، هذا وفي المقابل كان الآخرون يعملون بجد ولأهداف مستقبلية بعيدة جدًا وفي ضمن مخططات مرحلية أخضعوها لمختلف الاحتمالات والظروف حتى أصبحت جاهزة للممارسة والتطبيق مهما عاندت الأيام واستعصت، ولذلك هم اليوم في مقدمة الأمم يقودون العالم مع غياب واضح للمنافسين!!
وهو نفسه الحال يتكرر اليوم بين متثاقل ومدع للواقعية محارب لما يسميه مثالية.. وتستمر الحياة خادمة طيعة لمن يخطط لها ومدبرة ضاحكة بسخرية على من يعيش أيامها كأي مخلوق آخر لم ينعم الله تعالى عليه بما أنعم على الإنسان من عقل مدرك قادر على خلق واقع جديد دائمًا.
من الجيد أن نقول الآن: ما فات فقد فات وانتهى أمره. ولكن المطلوب أن لا يفوتنا اليوم دون تخطيط استراتيجي للغد، وأقصد بالغد ما تعنيه كلمة الأجيال القادمة، وعلى كل جيل يأتي مراجعة المخطط وتصحيحه وتطويره، ولا شك في أن هذا يحتاج إلى مؤسسات وكوادر عاملة بشكل منظم، ونحن في الواقع نمتلكها ولكن استثمارنا لها ضيق جدًا..
عندنا في المجتمع العشرات بل المئات من الجمعيات الثقافية والهيئات واللجان، ولكن –للأسف- فكلها تعمل في اتجاه واحد وعلى نمط الموسمية لا غير، وإن كان لها من نشاط خارج هذه الدائرة فإنه محصور بساعاته لا أكثر، وهنا أفتح قوسًا مهمًا (فليلاحظ القارئ الكريم حال المجتمع مع خطباء المنبر الحسيني، فأنا لم أسمع عن لجنة أو فريق متخصص بمتابعة الرسائل المنبرية في المجتمع!! فكل خطيب يأتي ليلقي ما عنده ثم يأتي غيره وهكذا هي القيمة تضيع بين خطيب وآخر، بل ولا حتى الخطيب نفسه وهو صاحب الخطاب يسأل أو يراجع المنطقة التي ألقى فيها خطابه ولا يحاول الاستعلام عن مدى تجاوب الناس مع ما قال)!!
إنها أزمة عميقة في التخطيط والفكر الاستراتيجي عمومًا، ولو أننا نتدارك هذا الأمر على مستوى المنبر فقط لكانت لنا من القفزات الثقافية النوعية ما تعجز عنه الكثير من القوى الإعلامية.
إضاءة قبل الختام:
هل من مشروع عندنا أعظم من مشروع دولة الحق المهدوية التي ننتظرها كما انتظرها آباؤنا؟
لا شك في أن النفي القاطع هو الجواب على هذا السؤال، فإذا كان المشروع بهذا الحجم والقوة كان من الواجب علينا الإعداد له وكأننا نعيشه فعلًا.. كيف سوف تكون دولة الإمام المهدي (عليه السلام)؟
دولة تدين والتزام، دولة اقتصاد قوي ثابت، دولة علم ومعرفة، دولة فهم وثقافة وفكر، دولة قوة وعلاقات متينة، دولة إنجاز وإبداع..
أليست هذه دولة إمامنا المهدي (روحي فداه)؟
إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتسائل: أيننا من التدين، وأين نحن من الاقتصاد القوي والعلم والمعرفة ومتانة العلاقات والانجاز والإبداع؟ أين نحن من الاكتفاء الذاتي وعلى مختلف الأصعدة؟
عندما نجيب بصدق على مثل هذه الأسئلة النوعية نكون قد وضعنا قدمًا ثابتة على طريق التخطيط الإستراتيجي الصحيح، إذ أن كل نقص يظهره الجواب من المفترض أن يتحول إلى مشروع يقع على طريق المشروع الأكبر وهو دولة الإمام المهدي (عليه السلام)..
هل ننتظر حتى يقوم القائم من آل محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين) فلا نجد أنفسنا ممن يختارهم لنصرته بعد أن قصرنا فيها قبل ظهوره؟ أم أننا نسارع الساعة للتخطيط ورسم البرنامج الأكبر الذي لا يتوقف العطاء فيه إلا مع قيام الراية المهدوية المظفرة؟
من هنا نبدأ..