بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
مدى مسؤولية الدين عن واقع القضايا في المحاكم الجعفرية
يقطع أهلُ كلِّ دينٍ سماوي بكماله ومناسبته التامَّة لكلِّ زمان ومكان، وعندما تطرأ إشكالات يظهر منها قصور في الدين فإنَّهم يردُّون هذا الظهور ويُرجِعُونَ المُشكلةَ إلى خلل في تطبيق الدين لا في نفس الدين وتشريعاته؛ والوجه في ذلك هو أنَّ الدين السماوي دينٌ إلهيٌّ قد جاء من المحيط الخبير الحكيم سبحانه وتعالى.
تتعمَّق هذه العقيدة في نفوس المسلين لقيامها على براهين يقينية أخلصتها ثوابِتَ لا يأتيها الباطلُ مطلقًا؛ فإنَّ ما يحمله الأنسان من تصديقات على ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: الأفكار: وهي لا تعدو كونها أفكارًا مالت إليها النفس دون أن يقوم عليها دليل.
القسم الثاني: القناعات: وهي التصديقات المبنية على أدلة علمية واضحة، إلَّا أنَّها قد تخطئ.
القسم الثالث: الثوابت: وهي التصديقات البرهانية؛ ومرجعها العلم التكويني الأوَّلي، وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، فيستحيل انتقاضها.
وبذلك، قد تتحول الأفكار إلى قناعات وثوابت، وقد تتحول القناعات إلى ثوابت وقد تتراجع إلى مجرَّد أفكار، وربَّما انقلبت إلى ضدِّها. ولكنَّ الثوابت ثابتةٌ ولا يمكن تحولها إلى أي شيء آخر؛ وإلَّا فهي لم تكن ثوابت من أصل!
عندما يقول الله تعالى في محكم الذكر (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[1] فبيان ذلك في كلام أهل الذكر (عليه السَّلام)، ومنه ما عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: “إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى واللَّه مَا تَرَكَ اللَّه شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْه الْعِبَادُ؛ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ – إِلَّا وقَدْ أَنْزَلَه اللَّهُ فِيه”[2].
ومن ما عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: “إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُ إِلَيْه الأُمَّةُ إِلَّا أَنْزَلَه فِي كِتَابِه وبَيَّنَه لِرَسُولِه (صلَّى الله عليه وآله)، وجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدًّا، وجَعَلَ عَلَيْه دَلِيلاً يَدُلُّ عَلَيْه، وجَعَلَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ الْحَدَّ حَدًّا”[3].
وما عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَارُونَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) يَقُولُ: “مَا خَلَقَ اللَّه حَلَالاً ولَا حَرَامًا إِلَّا ولَه حَدٌّ كَحَدِّ الدَّارِ، فَمَا كَانَ مِنَ الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقِ، ومَا كَانَ مِنَ الدَّارِ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ، حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ فَمَا سِوَاه، والْجَلْدَةِ ونِصْفِ الْجَلْدَةِ”[4].
فلا مجال إذن للقول بقصور الدين ولو فيما مقداره أرش الخدش. فهذا أصل أصيل وثابتة يستحيل تغيرها استحالة تكوينية أصيلة.
مثالية الدين:
نؤكد أوَّلًا على أنَّ المثالية أمرٌ مطلوبٌ يسعى له العقلاء وحملةُ النفوس السليمة، لا كما يُروَّجُ إليه في هذا الزمن الكؤود والعصر المظلم من أنَّ المثاليةَ تنظيرٌ حالمٌ يخالف الواقعية، وتحرير ذلك في التنبُّه إلى أنَّ الحقَّ في إقامة الواقع وصياغته على أسس الدين ومبادئه وتعاليمه، لا العكس كما هو الواقع اليوم من مطالبات مستميته، ومساعٍ جهيدة لجرجرة الدين إلى حيث ما يريد الواقع، وكلٌّ يعمل على وفق مقاساته وما ينساب أفكاره ومبتنياته، حتَّى ظهرت نظرياتُ تَغَيُّرِ النَظَرِ الديني بِتَغَيُّرِ الزمَانِ والمكَانِ، وهي نظريات باطلة فاسدة.
بلى، فإنَّ الفروع في التشريع تكثر، والاستدلالات في العقيدة تتعمَّق، ولكن على نحو الجديد، لا الحديث، فتنبَّه ولا تغفل.
وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “إنَّ كلَّ آيةٍ أنزلها اللهُ في كتابه على محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وخطِّي بيدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وكلِّ حلالٍ، أو حرامٍ، أو حَدٍّ، أو حُكمٍ، أو أيِّ شيءٍ تحتاج إليه الأمَّة إلى يوم القيامة عندي مكتوبٌ بإملاء رسول الله وخطِّ يدي، حتَّى أرش الخدش.
قال طلحةُ: كلُّ شيءٍ من صغيرٍ، أو كبيرٍ، أو خاصٍّ، أو عامٍّ، كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو مكتوبٌ عندك؟
قال (عليه السَّلام): نعم، وسوى ذلك أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أسَرَّ إليَّ في مرضه مفتاحَ ألف بابٍ مِنَ العلم، يفتحُ كُلُّ بابٍ ألفَ باب. ولو أنَّ الأمَّة مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبيَّهُ اتَّبَعُونِي وأطَاعُونِي لأكَلُوا مِنْ فَوقِهِم ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِم رَغَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ”.
ومحلُّ الشاهد قوله (عليه السَّلام): “ولو أنَّ الأمَّة مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبيَّهُ اتَّبَعُونِي وأطَاعُونِي لأكَلُوا مِنْ فَوقِهِم ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِم رَغَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ”[5]. وهي عينها الحالة المثالية الواقعة لا محالة فيما لو اتَّبع الناس أولياء الله تعالى؛ السادة الميامين (عليهم السَّلام)، وقد قال جلَّ في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[6]؛ وعن عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، في قول الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، قال: “الأئمَّةُ مِنْ ولْدِ عليٍّ وفاطمةَ (عليهما السَّلام) إلى أنْ تَقُوم السَّاعَةُ”[7].
الحاصل بعد ذاك أنَّ الناس لم يُسلِّموا لأمر الله تعالى؛ بل كانت السمة الأبرز في سيرتهم هي الاجتهاد الدائم في قبال الأنبياء والرسل والأوصياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وفي ذلك قال جلَّ في علاه (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)[8]، وهي سيرة جارية حتَّى في من أعلن تسليمه للدين ولكنَّه لم يُخلِّص نفسه من غرورها وإصرارها على تصحيح ما تراه، حتَّى لو اصطدم بالدين، فصاحبُها حينها يُؤَوِّلُ، أو يجدُّ في تخطئة النبي أو الوصي بعد تأصيله إلى حصر العصمة في الوحي والتبليغ دون سواهما من سائر شئون الحياة، وإن لم يُؤصِّل إلى ذلك فإنَّه يذهب إلى ما يريد من بعد تنظيره إلى فقه الزمان والمكان بما ينتهي به إلى حصر فهم النصوص فيه هو دون غيره من علماء وفقهاء!
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) فِي قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[9] قَالَ: “ذَاكَ واللَّه حِينَ قَالَتِ الأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ ومِنْكُمْ أَمِيرٌ”[10]؛ وهي بداية الاجتهادات الشخصية.
هذا وقد بيَّن الحقُّ جلَّ في علاه غايةً تأديبيةً مِنْ ترك أيدي الناس عابثةً مُفسِدة، فقال: (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فعُلِمَ أنَّ مع كلِّ إفساد ترتكبه أيدي الناس هنالك رسالة يدعوهم اللهُ تعالى فيها إلى الرجوع والتوبة، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “لا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِاسْتِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ إِلَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْه”[11].
وجه الضرورة في أن يكون المعصوم (عليه السَّلام) حاضرًا:
جاء عن الإمام الصادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: “مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيه اثْنَانِ إِلَّا ولَه أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، ولَكِنْ لَا تَبْلُغُه عُقُولُ الرِّجَالِ”[12].
وعَنْه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): “أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ (صلَّى الله عليه وآله) وأَنْزَلَ إِلَيْه الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وأَنْتُمْ أُمِّيُّونَ عَنِ الْكِتَابِ ومَنْ أَنْزَلَه، وعَنِ الرَّسُولِ ومَنْ أَرْسَلَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ، وانْبِسَاطٍ مِنَ الْجَهْلِ، واعْتِرَاضٍ مِنَ الْفِتْنَةِ، وانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ، وعَمًى عَنِ الْحَقِّ، واعْتِسَافٍ مِنَ الْجَوْرِ، وامْتِحَاقٍ مِنَ الدِّينِ، وتَلَظٌّ مِنَ الْحُرُوبِ، عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ رِيَاضِ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، ويُبْسٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، وانْتِثَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، ويَأْسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا. قَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُ الْهُدَى فَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى، فَالدُّنْيَا مُتَهَجِّمَةٌ فِي وُجُوه أَهْلِهَا، مُكْفَهِرَّةٌ مُدْبِرَةٌ غَيْرُ مُقْبِلَةٍ، ثَمَرَتُهَا الْفِتْنَةُ، وطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وشِعَارُهَا الْخَوْفُ، ودِثَارُهَا السَّيْفُ. مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ وقَدْ أَعْمَتْ عُيُونَ أَهْلِهَا، وأَظْلَمَتْ عَلَيْهَا أَيَّامُهَا. قَدْ قَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ، وسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، ودَفَنُوا فِي التُّرَابِ الْمَوْؤُودَةَ بَيْنَهُمْ، مِنْ أَوْلَادِهِمْ يَجْتَازُ دُونَهُمْ طِيبُ الْعَيْشِ ورَفَاهِيَةُ خُفُوضِ الدُّنْيَا. لَا يَرْجُونَ مِنَ اللَّه ثَوَابًا، ولَا يَخَافُونَ واللَّه مِنْه عِقَابًا. حَيُّهُمْ أَعْمَى نَجِسٌ، ومَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ مُبْلَسٌ، فَجَاءَهُمْ بِنُسْخَةِ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى، وتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه، وتَفْصِيلِ الْحَلَالِ مِنْ رَيْبِ الْحَرَامِ، ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوه، ولَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ! أُخْبِرُكُمْ عَنْه إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا مَضَى، وعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وحُكْمَ مَا بَيْنَكُمْ، وبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيه تَخْتَلِفُونَ، فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْه لَعَلَّمْتُكُمْ”[13].
فأوَّلًا: لا يستقيم الحال، ولا يرتفع الفساد إلَّا ببسط يدِ معصومٍ مهديٍّ قد جعله اللهُ تعالى خليفةً له في الأرض.
وثانيًا: في الكتاب العزيز تبيان كلِّ شيءٍ، وقد قال سبحانه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[14]، إلَّا أنَّ ما فيه لا تبلغه عقول الرجال.
وثالثًا: إنَّ المسؤول عن فهم بيانات الكتاب العزيز، والعارفَ بدقائقه، وبعامِّه وخاصِّه، هو المعصوم (عليه السَّلام).
هنا حقيقةٌ لا بدَّ لنا من فهمها فهمًا عن جلاء ووضوح، وهي أنَّ الخطأ النوعي يرتدُّ على النوع، وحينها لا يُقال: ليس ذنبنا!
من ذلك ما عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) يَقُولُ: “يَا ثَابِتُ إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى قَدْ كَانَ وَقَّتَ هَذَا الأَمْرَ فِي السَّبْعِينَ، فَلَمَّا أَنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ (صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه) اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَأَخَّرَه إِلَى أَرْبَعِينَ ومِائَةٍ، فَحَدَّثْنَاكُمْ فَأَذَعْتُمُ الْحَدِيثَ فَكَشَفْتُمْ قِنَاعَ السَّتْرِ، ولَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَه بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا عِنْدَنَا، ويَمْحُو اللَّه مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَه أُمُّ الْكِتَابِ. قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) فَقَالَ: قَدْ كَانَ كَذَلِكَ”[15].
كما ومن الضرورة بمكان الانتباه إلى أنَّ الدين منظومة تترابط مفرداتها في تمام لا ضعف فيه، وكمال لا افتقار لشيء بعده، لذا فإنَّ الخلل في مفردة يُؤثِّر في كلِّ المنظومة، كما فيما لو اختل النظام التربوي إلى الحدِّ الذي قام فيه تطبيعٌ عميقٌ مع تربويات مخالفة لتعاليم الدين الحنيف، فحينها يَضرِبُ الخَللُ في أصل نظرية “إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَه ودِينَه فَزَوِّجُوه”[16]؛ حيث إنَّ الخُلُقَ والدينَ هما المُحَقِّقان لِضَمَانَةِ استقرار الحياة الزوجية، وليسا هما اليوم على وفق ما جاء عنهما في الثقلين الشريفين؛ الكتاب العزيز والعِترة الطاهرة، وأقل ما نلاحظه في ما نحن فيه عدم العناية بمثل ما روي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قوله: “إذا سُئِلْتَ عَمَّنْ لا يَشْهَدُ الجمَاعَةَ، فَقُلْ: لا أعْرِفْهُ!”[17].
وقس على ذلك، ولا حرج؛ فالمجتمع اليوم أبعد ما يكون عن تعاليم الدين الحنيف، بل والأنكى اتِّهامها بعدم مناسبتها للعصر، وأنَّها كانت لأزمنة خاصَّة. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لعقليات صياغة الدين بحسب واقع الأطوار السياسية والاقتصادية، والثقافية والفكرية، والتربوية والاجتماعية التي تحكم العالم بطوفان العولمة، ولا يسلم منه إلَّا من ركب السفينة.
لُحَيظَةٌ مع شارب الخمر (والعياذ بالله):
هو مُدْمِنٌ على شرب الخمر، ومع ذلك يُصلِّي، وقد رفع راية الاعتراض على تشريع التوقيت للصلاة؛ لأنَّه طالما فاته الوقت بسبب سكره، وهو يطالب اليوم بحلٍّ (شرعي) أو (مدني) يجعل وقت الصلاة طَوعَ إفَاقَتِهِ من السُكر. وإن لم يجد العلماءُ لَهُ حَلًّا، فالويل لهم ثُمَّ الويل!
ليست المشكلة في هذا الأبله، بل هي في بعض المؤمنين إذ يَجِدُّونَ في البحث عن مخرج شرعي كي لا يُتَّهم الدينُ بتنفيره لمن يريد الهداية ولو على وفق خياراته!
ولُحَيظَةٌ مع آخر..
ماذا لو رفع الشبابُ أصواتهم بمظلوميةٍ يتَّهِمون الدين فيها بعدم إنصافهم بإباحة (الاستمناء) بعد تعذُّر الزواج في سنٍّ مبكر لأسباب ليس المقام مقامها، فالمهم والأهم هو معاناتهم الفعلية والواقعية التي تمتدُّ إلى قرابة عشر سنوات وأكثر من البلوغ إلى الوقت الذي يكونون مؤهلين فيه للزواج.
يقولون: لم نسمع من الدين وعلمائه غير اتهامنا بعدم الصبر وبسرعة الوقوع في الحرام، والحال أنَّهم لا يشعرون بمعاناتنا وما نعيشه من اضطرابات شديدة بسبب شهوة تعصف بنا ولا طريق للتعامل معها إلَّا وكان حرامًا!
أقول: ليست المشكلة في الدين وتشريعاته المقدَّسة، كما وأنَّها ليست في العلماء وما يقدمونه للناس من مواعظ ونصائح؛ وإنَّما المشكلة، كل المشكلة، في حياةٍ ما رُوعِيَ الإسلامُ وتعاليمُه في تكوينِها وصِيَاغَتِها. فالظالم لهؤلاء الشباب هو نفس الواقع الأدبي للحياة العصرية. وبعد ذلك يُطَالَبُ الدينُ باختلاق الحلول، وإلَّا اتُّهِم بالظلم وتضييع حقوق الناس!
هي هي من حيث الطبيعة تتكرَّر في الكثير من الموارد، منها الدعاوى القائمة فعلًا في المحكمة الجعفرية، وهي في الغالب دعاوى طلاق ترفعها زوجاتٌ على أزواجِهِنَّ، فتُصَبُّ الجهود في التحريض أوَّلًا على الاعتراف بوجود مشكلة فعلًا، ثُمَّ الانشغال على نحو الفريضة بإيجاد حلول لهذه القضايا القائمة، وأمَّا النظر الدقيق في الأصول النوعية لهذه المشاكل فهو نافلة، وقد لا تكون كذلك، وإنَّما ترَفٌ تُزخرفُ به بعض المقالات!
الواقع أنَّ المشكلة ليست في الشرع، لا ولا في المحاكم الجعفرية ولا في التطبيق، ولكنَّها أوَّلًا وأخيرًا في تَوَرُّط الناس بعقد الزواج الشرعي في الوقت الذي يبتعدون فيه عن تعاليم الشرع، وبذلك فَهُم لا يُقدِّمون بمقدمات تضمن نجاح العلاقة الزوجية ضمانة عقلائية تلتقي مع تعاليم الدين الحنيف، والحال أنَّهم مُلزَمُون بعقد النكاح الشرعي. وبالتالي فإمَّا أن يُغَيِّرُوا واقعهم المعيشي ثقافةً وفكرًا وسلوكًا بما يوافق أسس الزواج وبناءه كما جاء به الإسلام العظيم، أو أن يُغَيِّرُوا العَقْدَ بِمَا يوافق واقع الحياة العصرية ثقافة وفكرًا وسلوكًا.
ولأنَّهم قاعدون عن النهوض بواقع إسلامي يجعلهم يأكلون “مِنْ فَوقِهِم ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِم رَغَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ”، فليس من خيار أمامهم غير رمي خطاياهم على الدين الحنيف وشرعه المُقدَّس.
هل هناك من الأزواج من يؤذي زوجته إلى الحد الذي لا تحتمل العيش معه، ويرفض تطليقها؟
الجواب: نعم، هناك أزواج على هذه الدرجة من الدناءة وأكثر؛ إذ منهم من يرفض التطليق، حتَّى لو بذلت ما بذلت له من مال!
فإذن أين هو القضاء الجعفري عن تخليص الزوجة من هذا الظلم؟
الجواب:
أوَّلًا: إذا تعدَّدت الحالات من هذا النوع فهذا كاشف عن خلل في المنظومة التربوية للمجتمع؛ وإلَّا فليس من المتصور في مجتمع الإيمان والتقوى غير إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ولن يخلو مجتمعُ المؤمنين من حالات شاذَّة يتكفَّلها حاكم الشرع.
ثانيًا: إذا استحكمت المشكلة دون تضخيم من طرف ولا تهويل من آخر، وقامت البينة الشرعية فعلًا، فالأمر بيد الحكام الشرعي، ولا أحد بعده.
فإنْ قيل: أين هو الحاكم الشرعي؟
قلنا: رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: “لا يَسْتَغْنِي أهْلُ كُلِّ بَلَدٍ عَنْ ثَلاثَةٍ يفزع إليهم في أمر دُنياهم وآخرتهم، فإنْ عُدِمُوا ذَلِكَ كانُوا هَمَجًا[18]؛ فَقِيهٍ عَالِمٍ وَرِعٍ، وأمِيرٍ خَيِّرٍ مُطَاعٍ، وطَبيبٍ بَصيرٍ ثِقَةٍ”[19].
إنَّ مِنْ عِلَل الخير في البلدان، ومِن أسباب الصلاح في النواحي والأقطار أن يكون في كلِّ قومٍ عالِمٌ فقيهٌ منهم، يعلم واقعهم، ويفهم طباعهم، ويَخْبُرُ أحوالهم، وقد قال الحقُّ تبارك ذكره (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[20].
في هذه الآيات ثلاث حيثيات مهمَّة، أوَّلها أن يكون النافرون (مِنَ) الفِرقة، والثانية أن ينفر مِن (كُلِّ) فرقة طائفة، والثالثة في الغاية مِنَ النفر، وهي (التفقُّه)، لا مجرَّد التعلُّم. وهذه مسؤوليةٌ فريضةٌ يتحمَّلُها المؤمنون على نحو الكفاية؛ ويشهد على ذلك ما عن عبد الأعلى، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): “إنْ بَلَغَنَا وَفَاةُ الإمَامِ، كيفَ نَصْنَع؟
قال (عليه السَّلام): عليكم النفير.
قلتُ: النفير جميعًا؟
قال (عليه السَّلام): إنَّ الله يقول: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ).
قلتُ: نَفَرْنَا، فَمَاتَ بَعضُهم في الطريق؟
قال: فقال (عليه السَّلام): إنَّ الله يقول: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[21]“[22].
إنَّ ما نطرحه في المقام مُحدَّدٌ بضرورة استظلال كلِّ بلد بفقهائها، ولا دخل لما نحن فيه لا بقومية ولا بغير ذلك، فلا تذهبنَّ بعضُ التخيلات بأصحابها إلى غيرِ مذهبٍ. فافهم.
ما نعيشه اليوم هو نتيجة لبعض الأخطاء التي تراكم عليها بناء من جنسها، وها هي تنفجر في أجواء تساعد على تصوير حبَّة الرمل جبلًا، وإخراجها في أوهام الناس مُصَابًا جَلَلًا ومُشكِلًا مُشغِلًا!
إنَّه والحال هذه، فلا بدَّ لنا من الخضوع لأثمان ندفعها، ولو لا تهاوننا في مراعاة أصول التعاليم الإسلامية المنيفة لما اضطررنا اليوم لدفعها، والحقُّ أنَّه قانونٌ ينبغي لنا اعتباره وتقدير مقتضياته، والعمل على وفق آماده، وهذا يحمينا من الوقوع في مهاوي الحلول المجتزأة، ومن الاصطدام بنتائج الترقيع.
زبدة المخاض في أمرين:
الأوَّل: ليس من الصحيح، بل هو خطأ خطير؛ أنْ يُجَر المؤمنون إلى حيثُ يريد غيرُهم، ومن ذلك جرِّهم إلى محطَّة الانفعال عن أجواء تفاعليةٍ مصنوعةٍ، يتحكَّم بدفَّتها مجهولون! كما ومنه سوقهم للانشغال في البحث عن حلول لمصائب ليسوا سببًا فيها، بل المتسبب والفاعل لها هم نفسُ الشَاكُونَ من نتائجها، أو المُحرِّضون على الشكاية من نتائجها. فلا تغفل.
الثاني: لا يتحمل الإسلام مسؤولية الأخطاء الناتجة عن الابتعاد عن تعاليمه. ولا بدَّ من فهمِ طبيعية أنْ يدفعَ المُخطئُ نتائج أخطائه بحسبها، لا سيَّما في القضايا الثقافية والمسائل الفكرية، ولا شكَّ في أنَّ المجتمع قد ارتكب الكثير من الأخطاء الخطيرة بابتعاده على تعاليم الإسلام العظيم، وها هو اليوم غُرابٌ، لا هو إلى هذا ولا هو إلى ذاك.
ها هي واضحة صريحة.. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وكلمة أخيرة..
ليس من الصحيح أن يتحدَّث المؤمنون عن بعضٍ يريدون تغيير أحكام شرعية، بل الحقِّ أنَّ الجُرمَ وقبحه يركب من يفكر، مجرَّد تفكيرٍ، في إمكان، مجرَّد إمكان، توجيه نقدٍ، مجرَّد نقدٍ، لحكم إسلامي شرعي.
وقد قال جبَّار السموات والأرض: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا)[23]، وقال جلَّ في علاه: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[24].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
19 ربيع الأوَّل 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………
[1] – الآية 3 من سورة المائدة
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 59
[3] – المصدر السابق
[4] – المصدر السابق
[5] – كتاب سليم بن قيس – سليم بن قيس الهلالي الكوفي – ص 211
[6] – الآية 59 من سورة النساء
[7] – الإمامة والتبصرة – علي ابن بابويه القمي – ص 133 – 134
[8] – الآية 70 من سورة المائدة
[9] – الآية 41 من سورة الروم
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 58
[11] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، (تحقيق صالح) – ص 487
[12] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 60
[13] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 60 – 61
[14] – الآية 89 من سورة النحل
[15] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 368
[16] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 5 – ص 347
[17] – مستدرك الوسائل – ميرزا حسين النوري الطبرسي – ج 6 – ص 451
[18] – الهمج – بالتحريك -: السفلة والحمقى والرعاع من الناس، يُقَالُ: قَومٌ هَمَجٌ أي لا خَيرَ فِيهم.
[19] – تحف العقول عن آل الرسول (ص) – ابن شعبة الحراني – ص 321
[20] – الآية 122 من سورة التوبة
[21] – الآية 100 من سورة النساء
[22] – الإمامة والتبصرة – علي ابن بابويه القمي – ص 89
[23] – الآية 187 من سورة البقرة
[24] – الآية 1 من سورة الطلاق