قيمة أعمال الإنسان وما يسعى فيه، تكون بحسب ما تقرّبه من الغاية التي يقصدها ويسعى إليها، فإذا ما كان عمله في طريق تحقيق غايته أصبح لهذا العمل قيمة باعتبار موصليَّته لما يرمي إليه صاحبه، فيصبح هذا العمل في سلسلة الطريق نحو المقصود، وكلما كانت نسبة إيصاله أوسع صارت قيمته أعلى؛ وذلك لما يحققه من غاية صاحبه، وعلى عكس ذلك لو كان عمل الإنسان لا بقصد غايةٍ أو كان عمله بخلاف غايته، فإن الأول يكون بلا منفعة وقيمة، والثاني يكون مضرًا لصاحبه.
فعلى هذا الأساس لو أراد رجلٌ بناء منزلٍ له، فإعداده لمواد البناء وشراء الأرض يكون ذا قيمةٍ باعتبار محققية هذا الإعداد لما يرمي إليه ويبغيه وهو بناء المنزل، ولو كان شراء الأرض له الحظُّ الأكبر من تحقيق غاية بناء المنزل، كان هذا الشراء له القيمة المعنوية الأعلى بين بقية الأعمال لبناء المنزل، وأما لو كان هذا الرجل يقف ناظرًا لأدوات البناء من غير سبب لذلك ولا منفعة لتحقيق غايته، فإن عمله يوصف بالعبث وتضييع الوقت، أما لو أنفق ماله في توافه الأمور ولم يوفره لبناء المنزل كان عمله هذا مخالفًا لغايته ومضرٌ له، فضلًا عن كونه بلا منفعة في جهة تحقيق مراده.
ولذلك نرى أن الله تعالى وصف عمل قومٍ بالخسران وسعيَهم بالضلال، لمخالفة سعيهم لما جعلوه غايةً لهم من الحياة الدنيا، قال عزَّ من قائل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}، وعلى إثر ذلك ينبغي لنا أن نعرف غايتنا في هذه الحياة لكي نقيس عليها قيمة ما نعمله، فهل نحن نقترب من هذ الغاية، أم نزداد منها بعدًا، فتحديد قيمة العمل يكون بذلك.
هذا معيارٌ ولكنه ليس المعيار الوحيد في اكتساب العمل لقيميَّته حيث أن الغاية المجعولة إذا كانت ذات مكانة عالية تكسب العمل الموصل لها قيمةً زائدةً على محققية العمل لهذه الغاية، فلو كان رجلان يطلبان العلم في نفس الطريق والمنهج، أحدهما يطلبه لأجل اكتساب العلم والآخر يطلبه لاكتساب المال، فإن الأول يكون سعيه ذا قيمة أعلى من الآخر؛ لسموِ مقصده وهو طلب العلم لأجل العلم.
فالمتحصل أن ما يُكسب العمل قيمةً أمران، الأول: كون هذا العمل موصلٌ لغاية صاحبه، الثاني: علو الغاية المقصودة بهذا العمل.
وقد نصَّ الله تعالى على الغاية من خلقنا، والمراد من إيجادنا، بقوله في كتابه العزيز: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وهي أعلى الغايات وأشرفها، بل هي حق الغاية دون ما سواها، وجعلت الدنيا طريقًا لتحصيلها لا للانشغال بها عنها، ولمحلِّ فضله علينا بيَّن لنا كيف نحقق هذه الغاية، على لسان رسله وأوصيائه (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، بما فرضه علينا من الواجبات، ونهانا عنه من المحرمات، وما نحصل منه معنى العبودية للخالق تعالى.
وعلى ذلك، لا بد أن نعلم أن أي عملٍ نعمله لا يصب في رضى الله تعالى، وبالتالي لا يوصلنا لغاية الخلق، فهذا العمل لا قيمة واقعية له، وخسران آثاره ومتعلقاته لا يضر بنا، لعدم إضراره بتحقيق غايتنا ألا وهي أن نكون عبيد لله سبحانه، وفي قبال ذلك نعلم أن الأعمال التي تكون لها قيمة واقعية هي التي توصلنا لرضى الباري جلَّ اسمه، وتحقق العبودية له سبحانه، ومحل قيمة هذه الأعمال من كونها موصلة للغاية ومن أنها تكون في رضى خالق هذا الكون.
ومن هنا نعي كلام إمام المتقين وأمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) حيث روى عنه الشريف الرضي في نهج البلاغة قوله (ع): «أَلَا وَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكُم تَضْيِيعُ شَيءٍ مِن دُنْيَاكُم بَعدَ حِفظِكُم قَائِمَةَ دِينِكُم، أَلَا وَإِنَّهُ لَا يَنفَعُكُم بَعدَ تَضْيِيعِ دِينِكُم شَيءٌ حَافَظْتُم عَلِيهِ مِن أَمرِ دُنيَاكُم»؛ وذلك لأن أمر الدنيا لا يوصل للغاية من الخلق فكان ضياعه لا يضر بنا شيئًا، وأما الحفاظ على الدين فهو الموصل لعبودية رب العالمين، فصار لا ينفع شيءٌ إذا ما ضاع ولم يحفظ، فعلينا أن ننظر في أمرنا هل نحن نسير نحو ما خلقنا لأجله أم نزداد منه بعدًا فيضل سعينا ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا؟
وهنا إشارة يُختم بها الكلام، وهي أن سرعة الوصول لتحقق الغاية ليست بكثرة الأعمال وتعددها، أي كلما عملت كثيرًا وصلت سريعًا، وإن كانت الكثرة تساعد في ذلك، غير أن المعيار في ذلك هو اختيار الأحسن من الأعمال، فرُبَّ قليل العمل سريع الوصول، وكثير العمل بطيء اللحوق، وهو ما يعبر عنه أن المعيار بالكيف لا بالكم، فنرى أن الابتلاء من الله تعالى بحسن الأعمال لا بكثرتها، وهو قوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }، عن الكليني (أعلى الله مقامه) بإسناده عن سفيان ابن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال (ع):
«ليس يعني أكثر عملًا ولكن أصوبكم عملًا وإنَّما الإصابة خشية الله، والنية الصادقة، والحسنة»، فنرى في بعض الروايات كون العمل القليل مع التقوى خيرٌ من الكثير من غير تقوى، وأساس قبول الأعمال كثرت أو قلت هو أحسنها؛ إذ أنَّ من دونه لا تتحق الغاية من وراء أي عمل، وهذا الأساس يخبرنا به أبو حمزة الثمالي، حيث قال:
قال لنا علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام): «أي البقاع أفضل؟» فقلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم.
فقال (ع): «إنَّ أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أنَّ رجلًا عمَّر ما عمَّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع، ثم لقي الله بغير ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئًا».
———
حـسين يوسف طارش
١٩ رجب ١٤٤٢ للهجرة