عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام): “جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّا نُسَمِّي بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ. فَيَنْفَعُنا ذَلِك؟
فَقَالَ إِي وَاللَّهِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟ قَالَ اللَّهُ: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)”.
لعلّ يخطر في بال القارئ لهذا الحديث الشّريف تساؤل يتعلّق بتذييل الإمام صلوات الله عليه جوابه بالآية الشّريفة الّتي تشتمل على مفهومين خطيرين، هما: الاتّباع والمغفرة. فلا يراها لأوّل وهلة متناسبة مع الموضوع الذي سُئل عنه الإمام عليه السّلام، إذ أنّ هذين المفهومين يرتبطان في أذهاننا بالأحكام العقائديّة والشّرعية في حين أنّا نرى بأن موضوع السّؤال ليست له علاقة بهذه الأحكام، بل أنّه منصبٌّ على جانب عاطفيّ في نفس السّائل، وهو ما نفهمه من عبارة الإمام المعصوميّة البرّاقة الأنيقة “وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ”، فكيف يكون الحُبُّ الذي هو أمرٌ عاطفيّ، وزيادة على ذلك أنّه في هذا المورد متعلّق بأمرٍ مادّيًّ دنيويًّ وهو تسمية الأولاد؛ كيف يكون من الدّين وله اتّصال بالمغفرة والاتّباع؟
أجد أنّ خللًا في فهم الحبِّ والعاطفة سبّبَ هذا التّساؤل، وهو خلل سيّء يدخل في تفاصيلِ الكثير من المواضيع، كما وأنَّه متشعّب الأطراف، واقعٌ في مجتمعنا وفي غيره من المجتمعات قديمًا وحديثًا، بل قد يكون سائل الإمام في الحديث المتقدّم ممّن تشرّب ذات الفكرة؛ وهي ربط الحُبّ والعاطفة وتلطيخها بصبغتين أساسيتين:
الأولى: التّزهيد في العاطفة وأثرها النّافع عبر التركيز على أضرار الاكتفاء بها.
الثّانية: تعلّق الحُبّ بالشّهوات وبالدّنيويّات المُهلِكة.
أمّا الصبغة الأولى فإنّها تصبغ مجالات متضادّة، فنرى المحقّق في سيرة الإمام الحسين عليه السّلام على سبيل المثال وفي قباله من أنهكه الهيام في معشوقته، كلاهما يردّدان مقولة واحدةٍ، أو ما أدّى معناها، وهي حَكّم عقلك واترك عاطفتك!
هذه العبارة وشبيهاتها ألقت بظلالها على أيّ مورد حوى شيئًا من العاطفة فيصير بذلك مستهجنًا لا يُقبَل في الأمور الجادّة، ولسنا هنا بصدّد مناقشة هذا الأمر ومدى صحته من خطئه، ولكن للارتباط الوثيق بين الحبّ والعاطفة أثّر الأمر المذكور في الحُبّ فصار إبداؤه من هامش الكلام، بل وغير مستساغ فيما يُدّعى أنّه من الأمور العقلانية الجادّة.
أمّا الصّبغة الثّانية فإنّه لمّا كان الحُبّ أمرًا ساميًا عظيمًا رحمانيًا لم يتركه إبليس على حاله، فجرّه إلى وحله ومستنقعاته حتّى صار الحبُّ مرتع الغناء وأشعار الزّندقة، فصار له ارتباط في وجدان الإنسان بالشهوات من الخمر والنّساء وما شابه.
لا يمكن ضبط هذا الخلّل وإصلاحه إلّا بإدراك واستشعار الحبّ الصحيح، والتّمييز بينه وبين ما يتقمّصه من شعورٍ خاوٍ قبيح، فالحُبّ الصّالحُ النّقيّ على خلاف ما ذكر آنفًا جملةً وتفصيلا؛ فعاطفيّته عقلائيّة ومآلاته جنّاويّة بعيدة كل البعد عن منزلقات الشّهوة والمسالك الشّيطانيّة، وهذا ما يجب أن يكونَ حاضرًا في البال لئلَّا يذهب الخيال للبعيد من تحقيق الحال، فالحب حبّان حبٌّ في الله وحبّ في الدّنيا، وعدم التّفريق بينهما هو الذي قد يودي بقلب الإنسان ويهلكه؛ فيمتنع عن العلاقات التي قد عظمت عند الله كالمؤاخاة والصّداقات؛ لإشكال في الحب نشأ عنده للأسباب التي أسلفنا ذكرها، ولكنّه لا يعلم أنّ في الحُبّ الصحيح حياة لقلبه ونفع لآخرته، بل هو شريان من شرايين العيش في هذه الدنيا التعيسة التي لا تطاق بغير الحُب والتّواد.
وإذا أراد الإنسان أن يستشعر ذلك الإحساس الطّاهر ويدرك ذلك المعنى الفاخر فما عليه إلا الالتفات لأمرين أساسيين:
الأوّل: المنشأ الصحيح وهو منحصر في الحب في الله.
والثّاني: الاختيار الصحيح للمحبوب تحت ظلال الحب في الله.
فيفيضَ سبحانه في هذه العلاقة من فضله ورحمته ما يشاء فيبقى الحب مرعيًا منه تعالى محافظًا على جلالة قدره وسمو معناه الذي لا يستطيع إنسانٌ أن يوضحه لأنّه مكنون في النفس لا يُدرَك إلّا باستشعاره.
وليعلم أنّ الحُبّ مرتبط بكل مفاصل هذه الحياة، فلم يكن يومًا مختصّا بالزّوجين كما يتوهم البعض، وليس منحصرًا بكلماتٍ تصدر منك لتعبّر عنه -مع تسليمنا بأهمّية التّعبير عنه بالكلمات- بل هو لكل ما يرتبط بك وبكل ما يرتبط بك؛ فللوالدين نصيب منه بطاعتهم، وللمجتمع نصيب منه بمراعته، ومن أشرف من تحوطهم دائرة الحب ويعظم فيهم: الأصدقاء والإخوان؛ فالمتأمّل في الأحاديث الشّريفة يقف متعجّبًا ممّا يراه من تركيز -أخال أنّ أغلبنا اليوم لا يعيه فضلًا عن أن يطبّقه- على هذه الطّبقة المميّزة في حياة كلّ إنسان، ودونك كتاب مصادقة الإخوان للشيخ الصّدوق (رحمه الله) لتنظر الحالة الفاضلة التي ينبغي للإنسان، إن أراد أن يكون إنسانًا، أن يتحلّى بها من الحُب والرّحمة والعاطفة الممدوحة التي يحيى بها القلب.
وأحسن الكلام ما تفضّل به سادات الأنام ليبيّنوا لنا أرقى الأحكام، وكم ضيّعنا من جواهر ثمينة بتخصيصنا الظّالم لهم عليهم السّلام بالشرع والعقائد وتركنا ما يُعلِّمُنا الحياةَ من حديثهم الرّائد، فانظر بعين القلب شيئًا مما يقولون من درر في الحب والعاطفة، تلامس الوجدان الواعي للقلوب العارفة، ثم تأمّل في سيرتهم عليهم السّلام وكيف كان الحُبّ بمظاهر شتّى يسود في حياتهم وفي تعاملاتهم صلوات الله عليهم:
في حديث عن الإمام أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ عَنْ آبَائِهِ عليهم السّلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: “يَا عَبْدَ اللَّهِ أَحْبِبْ فِي اللَّهِ وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ وَوَالِ فِي اللَّهِ وَعَادِ فِي الله؛ فَإِنَّهُ لَا تَنَالُ وَلَايَةَ اللَّهِ إِلَّا بِذَلِكَ وَلا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ”.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ: “إِنَّ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ وَتُعْطِيَ فِي اللَّهِ وَتَمْنَعَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ”.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ: “مِنْ حُبِّ الرَّجُلِ دِينَهُ حُبُّهُ إِخْوَانَهُ”.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: “يَا زِيَادُ، وَيْحَكَ؛ وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ! أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)؟ أَوَلَا تَرَى قَوْلَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)، وَقَالَ (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ). فَقَالَ: الدِّينُ هُوَ الْحُبُّ وَ الْحُبُّ هُوَ الدِّينُ”.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله: “وُدُّ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ فِي اللَّهِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ، أَلَا وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ وَأَعْطَى فِي اللَّهِ وَمَنَعَ فِي اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَصْفِيَاءِ اللَّه”.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ: “مَا الْتَقَى مُؤْمِنَانِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبّاً لِأَخِيهِ”.
عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: “قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إِنِّي أُحِبُّكِ، لَا يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِهَا أَبَدًا”.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام، في حديث: “وَعَليْكم بالحُبّ في الله والتّودّد والْموازَرةِ على العملِ الصّالحِ فإنّه يقطعُ دابرهما -يعني السّلطان والشّيطان-“.
قال أبو عبد الله عليه السّلام لِعُمَرَ بنِ يَزيد: “لِكُلِّ شَيءٍ شَيءٌ يَستَريحُ إلَيهِ، وإنَّ المُؤمِنَ يَستَريحُ إلى أخيهِ المُؤمِنِ كَما يَستَريحُ الطّائِرُ إلى شَكلِهِ، أوَما رَأَيتَ ذاكَ؟”.
السيّد علي بن السيّد محمّد بن السيّد علي العلوي
ليلة التّاسع من رجب الأصب ١٤٤٢هـ – ليلة الإثنين