“إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي“
بعد الحصر المستفاد من (إنما) صرح الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه هو الذي خرج عازمًا حتى لو كان فردًا وحيدًا في ساحة المواجهة (خرجتُ، ولم يقل خرجنا)، وخروجه كان من أجل غاية أوحدية هي طلب (الإصلاح)، ليس في الحاكم ولا في النظام ولا في الحكومة، وإنما في أمة رسول (صلى الله عليه وآله)، فالإمام الحسين (عليه السلام) خرج ليصلح ثقافة اختيار الحاكم التي ما إن تميع عن القانون الإلهي (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) و(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا) حتى تقع الأمة في ويلات يزيد بن معاوية وأشباهه فتتقيح السلطات الجائرة حقراء من أمثال الحجاج الذي استباح مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يبقي سِتْرًا إلا وانتهكه، ولذلك قالها (صلوات الله وسلامه عليه) واضحة محكمة جلية: “مثلي لا يبايع مثلك”، وهذا فاصل دقيق في قرارات من يعي قول الحق تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) و(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
إنه درس عميق ولكن –للأسف- رفضت جماهير الأمة استيعابه كما رفضت استيعاب وصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالخلافة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا والحسين (عليه السلام) كان قادرًا على الدخول في صفقات سياسية ناجحة لو أنه استبدل غاية (إصلاح الأمة) بغاية (إصلاح النظام أو الحكومة)، والسبب أن الناس بغض النظر عن انتمائهم المذهبي أو الفكري لهم نزعة نحو العمل السياسي إذا أمنوا البطش والإضرار بمصالحهم، كيف لا والسياسة محل مجرب للوجاهة والظهور والظفر بمساندة الجماهير خصوصًا إذا تعلم السياسي فنون الخطابة واستمالة القلوب؟
نعم، كان الحسين كشخص (عليه السلام) قادرًا على (لعب) العديد من الأدوار و(التكتيكات) السياسية، ولكنه الحسين خليفة الله بالحق جاء لإحقاق الحق وتعليم الناس كيف يسيرون على هذا النهج النوري السماوي، ولم يكن الخلل إلا فيهم بعد أن باعوا آخرتهم بدنيا حقيرة لا تساوي عن أولياء الله جناح بعوضة..
إنه التاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتكرر بألوانها الفاقعة، وثورة اليوم ينبغي لها أن تعالج أصل المشكلة، وهي مشكلة (الأمة) في ثقافتها السياسية التي تصر على عدم الإرتكاز فيها على الأسس المستقيمة للقرآن والعترة، فما كان بعد السقيفة وما جرى في شام معاوية ومن بعده يزيد رأيناه عندنا عندما حملت (السيارة) على الأكتاف!! لا أقول هذا معاتبًا ولا لائمًا، فالأمر مضى وحاله انقضى، مع أننا لا نزال ندفع ثمنه باهضًا، وبالرغم من كل ذلك نجد أخواننا الأفاضل الأجلاء الذين لا نوجه لهم النقد إلا من حرقة قلب وحب وود.. نجدهم مصرين على الدخول مع من رفض الإمام الحسين (عليه السلام) مبايعته في حوارات وتسويات سياسية، والحال أن الأمر من المعصومين (عليهم السلام) محسوم بـ “مثلي لا يبايع مثلك”!!
لا أدري.. ربما يرى الأخوة في المعارضة السياسية ما لا أرى، وربما تكون قراءتهم للنصوص أكثر وعيًا مني، إلا أنني وللحظة أفهم الحق فيما قلت حتى يرد دليل ناقض، وهذا مالم يحدث إلى ساعة كتابة هذه السطور، وعلى أية حال فخطابي لمن يقرأ لي من جماهير الشعب، فأقول:
إننا جميعًا اليوم في مركب واحد لا مركبين، ونواجه قضية كبرى واحدة لا قضيتين، أما المركب فأيام اليوم وغد، والقضية قضية التعاطي السياسي بحسب كل الاحتمالات المتوقعة من سقوط النظام إلى إصلاح الدستور، وربما العودة لشراسة القمع بما يشبه فترة ما يسمى بـ (السلامة الوطنية)، وقد يكون غير ذلك مما يتوقعه المحللون السياسيون، وفي جميع الأحوال ينبغي لنا قطع صلاتنا مع الطاغوت ما استطعنا، ولنكن على يقين تام بأن العيش بحرية الفكر وراحة البال أهم بكثير جدًا من الوظيفة والمال وبيت الإسكان وما شابه، فنحن اليوم نريد الكرامة، وأقولها بكل صراحة: لا كرامة إلا في ثقافة الحرية وليس في حرية الثقافة كما يظن الكثيرون، وفي هذا المضمار أسجل استغرابي الشديد جدًا من فعاليات المطالبة بعودة المفصولين للوظائف والأعمال!! لماذا تريدون (تسليط) السيف على رقابكم ثانية؟ لماذا تقاتلون للعودة تحت سلطان الجور؟
إن هذا اللون من الثقافة هو الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) لإصلاحه في الأمة، وهذا الإصلاح وظيفته تأهيل الإنسان للترقي في مدارج القدرة على المواجهة النفسية مع الظالم قبل مواجهته بمسيرة أو مظاهرة أو (مولوتوف)!!
نريد حرية هنا.. في الدماغ.. في النفس والسلوك، وهذا لا يستقيم مع فكرة التنازل أو حتى التخلي (مؤقتًا) عن السعي نحو دولة الإسلام خجلًا وخوفًا من موقف المستكبر الذي يمثله الرأي العام الدولي!!
أيها الأخوة الأفاضل.. أيتها الأخوات الجليلات، فليكن سعينا الدائم والمستمر صوب تحقيق المعاني العالية لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)..
إيمان: ويتحقق بالمحافظة على الصلوات في أول الوقت.. الحرص على إقامة صلاة الليل.. التأكيد على صلاة الجماعة وإعمار المساجد خصوصًا في الفجر.. الاجتهاد في إصلاح ذات البين.. الاستغناء عن الطاغوت والركون إلى المؤمنين…
نصرة الله تعالى: وتتحقق بالعلم.. العفة.. التقوى.. مراقبة النفس.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. تولي أولياء الله عمليًا والتبري من أعداء الله عمليًا.. عدم النخاذل عن الدعوة إلى الدين قولًا وسلوكًا.. الصبر على الأذى.. النظر دائمًا لما بعد هذه الدنيا الدنية.. عدم التعلق بالشهوات والملذات..
إنه طريق ذات الشوكة، ولكن جائزته كرامة من الله تعالى و(جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ).. إنها غاية الإصلاح التي خرج من أجلها إمامنا الحسين (عليه السلام)، وهي تفصيل قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ).
السيد محمد علي العلوي
2 صفر 1433هـ
27 ديسمبر 2011م