عن أبي الحسن عليِّ بنِ موسى الرضا (عليه السَّلام)، قال: “الغوغاء قتلة الأنبياء، والعامَّة اسم مشتق من العمى، ما رضي الله لهم أن شبههم بالأنعام حتَّى قال: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)”[1].
“أَصل الغَوْغاءِ الجَرادُ حين يَخِفُّ للطَّيرانِ ثُمَّ استعير للسَّفِلةِ من الناسِ والمُتَسَرِّعين إلى الشرِّ، ويجوز أَن يكون من الغَوْغاءِ الصوتِ والجَلَبةِ لكثرة لَغَطِهم وصِياحِهِم”[2].
والعامَّة خلاف الخاصَّة، “قال ثعلب: سميت بذلك لأنَّها تعمُّ البشر”[3]، والظاهر أنَّ العمى عن مبصرات الخاصَّة، فغير الخاصَّة بالنسبة للخاصَّة عُمي.
فالكلام إمَّا أن يُطلَبَ بعقلية طلب التبصُّر وإلَّا فهو وضع للعلم في غير محلِّه، ومشكلة العامَّة بما هي عقليةٌ تفرض واقعًا خاصًّا على فهم وتوجُّه الفرد والجماعة أنَّها تستعجل الالتقاط والتركيب، فتخرج بمفاهيم مغلوطة غاية الغلط؛ بسبب الاجتزاء اللا إرادي.
من سمات العامَّة كثرة دعاوى الفهم، والحال أنَّه تركيب لمعلومات ملتقطة تُتَوَهَّمُ فهمًا لما قاله المتحدِّث. ومن أمثلة ذلك لو قال من هو أهل للقول بجواز أمر ما بشرط، فإنَّا العامَّة في الغالب يأخذون بكلمة (يجوز) ويبنون عليها، وإن ذُكِّروا بالشرط أجابوا بعدم تحقُّقه وباشتباه من يقول بغير ذلك!
عقليةُ العامَّةِ مُسَيَّرةٌ تتوجَّه متأثِّرة بأدنى حراك يصطبغ بألوان تمسُّ العاطفة، وهو ما نراه حقيقةً وواقعًا في الكثير من التحشيدات والتحريضات حتَّى لو كانت من جهات غير معلومة.
أدرك عالمُ الاجتماعِ الفرنسي (غوستاف لوبون 1841 – 1931) هذه الحقيقة المُعقَّدة وبيَّنها بتفصيل مهمِّ في كتابه التأسيسي (سيكولوجية الجماهير). نقفُ بعد قراءتنا لهذا الكتاب على أربع حقائق: “أوَّلها أنَّ الجمهور لا يُمكِنُ إقْنَاعُه بأيِّ أيديولوجيا أو فكرة، بالاعتماد على الوسائل العقلية. كذلك فإنّه يفضّل مخاطبته بلغة الصُور والإيحاء والشعارات. وهو لا يمكنه أن يَتَحَرَّك من دون قيادة. وأخيرًا هناك تبادل الوهم السياسي والديني بين القاعدة ورأسها. لكن الأهم من هذه الرباعية، غياب العقلانية وتحرُّك الجماهير على أساسها. حتَّى الأفراد غير العاديين، أي المفكرين والعلماء، ليس بمقدورهم مقاومة سحر الجماهير إذا انخرطوا معها”[4].
لا أحسب ذلك ممَّا يخفى على مُتَعَقِّلٍ، فمسألة قَصْرِ الخِطَابَات العلمية وما في حكمها، ممَّا يحتاج إلى تفصيل، على أهلها وطلَّابها الجادِّين ممَّا تبانى وتسالم عليه العقلاء؛ فوجدنا على مر التاريخ دورًا خاصَّة ومعينة للملتقيات العلمية والفكرية، وأمَّا العامَّة والجماهير فلا يتعاطى معهم العقلاء في غير موارد التحريض والتحشيد والإنذارات العامَّة، وعموم ما ليس فيه تفصيل مهم.
بل حتَّى مع الخاصَّة لا يُترَك الخطاب العلمي دون ضبط، وقد جاء عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) أنَّه قَالَ: “إِنَّ حَدِيثَكُمْ هَذَا لَتَشْمَئِزُّ مِنْه قُلُوبُ الرِّجَالِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِه فَزِيدُوه ومَنْ أَنْكَرَه فَذَرُوه”[5].
فائدة:
الضرورة العلمية لإحراز مناسبة محلِّ إلقاء الكلام:
“روي عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: “كلِّمُوا الناسَ بما يعرفون ودَعُوا مَا يُنْكِرُون”.
وقال (صلَّى الله عليه وآلِه): “مَا أحَدٌ يُحَدِّثُ قومًا لا تَبلغُه عُقُولُهُم إلَّا كانَ ذلِكَ فِتْنَةٌ على بعضِهِم”.
وقال عيسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسَّلام): “لا تَضَعُوا الحِكْمَةَ في غير أهلِها فَتَظْلمُوها، ولا تمنعوها أهلَهَا فَتَظْلِمُوهم. وكُنْ كالطَبيبِ الحَاذِقِ يَضَعُ دواءه حيث يعلم أنَّه ينفع.
وقيلَ: تَصَفَّحْ طُلَّابَ حِكَمِكَ كمَا تتصفَّح طُلَّابَ حَرَمِكَ.
وسأل جاهِلٌ حكيمًا عن مسألةٍ مِنَ الحَقَائِقِ فأعْرَضَ عَنْهُ ولم يُجِبْهُ.
فقال له: أما سمعت قول النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): “من كتم علمًا نافعًا جاء يوم القيامة مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَار؟
فقال: نعم سمعته، فاترك اللجَام هنا واذهبْ، فإذا جاء مَنْ يَسْتَحِق ذلك وكَتَمْتُهُ فَليُلجِمْنِي بِهِ”[6].
تجتمع مثل هذه الأحاديث والأقوال في مُشتَرَكٍ هو أن لا يُوضَع العِلْمُ في غير محلِّه، ويلزم من ذلك إحراز كون المحلِّ محلًّا للعلم والحكمة والتفصيل، وإلَّا فيتعقَّد الأمر في مجموعة عناوين؛ منها:
الخطاب من غير محلِّ اللفظ: وسمته لذة الفرار من ألم النقص إلى نشوة الكمال وإن كان متوهمًا. بيانه:
لو أُعلِنَ عن درسٍ لأحد أكابر الفقهاء ممَّن يكتسبُ حضَّار دروسهم ميزة عنوان الحضور، فصورتان:
الأولى: أن يتصدَّى العقلاء إلى توضيح خطورة هذا الدرس على غير من هم أهل له فعلًا وواقعًا، وأنَّه لا يُكسب ميَّزة لمن يحضره ما لم يكن من أهله. وأي شيء خلاف ذلك فهو محضر توهم وخداع.
الثانية: أن يُترَكَ الأمر دون ضبط، وفي هذه الصورة يحضرُ عشرةٌ -مثلًا- من غير المؤهلين لمثل هذه الدروس بدافع قوي للتوهم بالتلبُّس بما تلبَّس ويتلبَّس به المؤهلون، وهذه هي عين العقل الجمعي عندما يُقاد لخطاب نفسي جمعي مستغن عن البيان اللفظي.
إنَّ للكون مع (الناس) جهةَ استقواء نفسية هي الأساس في قولهم: (حشرٌ مع الناس عيد). بل يذهب بعض المبالغين في توصيف سلطة العقل الجمعي إلى أنَّه لو سيق العالمون يوم القيامة إلى جهنم إلَّا قلَّة أُمِر بهم إلى الجنَّة، فإنَّهم لن يدخلوها؛ وسوف يصرُّون على الانخراط مع الجماهير دفعًا لمخوف نفسي، وهو نظرة الاستنقاص من الآخرين وفقدان وجاهةٍ يرونها في الآخرين!
إذًا، لهذه الحالة خطابٌ غير لفظي، وهو ما يعتني به ذوو النظر في مقام القراءة والتحليل.
ومنها.. الكون في وسط الناس في ظرف الحدث: وسمة هذه الحالة الوقوع في عدَّة خطابات:
ينشغل الحاضر في وسط الجماهير بما ينبغي أن يكون هو عليه، فهل يستمع ليتعلَّم؟ أو لينتقد؟ أو ليناقش؟ أو ليدخل في حوار خاص بعد الخطاب؟ وهل يبدو عليه من أهل الطرح أو لا؟ وهذا كلَّه يقع في نفس ظرف الخطاب الدرسي أو البحثي أو عموم الحدث.
يتداول اثنان الخطاب أو الحدث: أوَّلهما: من يكون أهلًا له، ويتداوله على أسس علمية حقيقية ليست متوهمة، وفي الغالب يكون في دوائر خاصَّة من الأقران. والثاني: المستعجل الذي لا يمكنه إدراك أكثر من بعض العناوين والمعلومات على نحو الالتقاط.
ومنها.. توهم تحقيق المطلوب:
تكتفي النفسُ المَشغُولَةُ بالضغطِ الجَمعِي والجماهيري بحضور الحدث والتقاط المعلومات، وتعيش حالة من توهم الفهم والإحاطة.
إنَّ لمثل هذه العناوين الواقعية تَعَقُّدات صعبة تقع في ظرف خطير طبيعته: التمايز الحقيقي بين المجتمعين من الناس وخضوع نفس هذا التمايز لسلطة التجانس الذي تفرضه عقلية الجماهير. وهذه هي فذلكة المشكلة.
تَعَقُّدٌ آخر في جهة صدور الخطاب:
يتميَّز المُعلِّمُ بارتفاع مقامه عن المُتعلِّمُ، وترافق هذا الارتفاع نشوة نفسة خاصَّة تتعمَّق كلَّما أخذ العِلم منحى متميزًا من الصعوبة أو الأهمية أو ندرة من يتقنه، وإذا ارتبط بجهد مقدَّسة كما هو الحال مع مُعلِّم القرآن مثلًا.
تشتدُّ نشوةُ الارتفاع وتزدادُ خطورةً كلَّما ازداد الحضور عددًا وتميز نوعًا، وكلَّما ظهرت معالم الإعجاب وما في حكمه.
تنبيه: بالنسبة للمؤمنين فإنَّ هذه الحالة لا تقدح لا في تقوى ولا ورع، وكل ما نحن فيه هو إظهارٌ لبعدٍ نفسي واقعي. فلا تعجل.
تنبيه في تنبيه: اضطرَّ المقام للتنبيه الأوَّل خوفًا من تسلل العقل العامِّي، وهو الذي من شأنه أن يترك كلَّ الكلام ويُوجِّه إلى أنَّ المقال يُعَرِّض بنوايا المؤمنين وتقواهم. فتأمَّل جيِّدًا.
تتحدَّث جهة صدور الخطاب عن آثار خطابها وما حقَّقه من حلِّ إشكالاتٍ وردِّ شبهاتٍ وتأسيس لثقافات وفكر وما إلى ذلك. وهذا في الواقع من أكثر تعقيدات سيكولوجية الجماهير إشكالًا؛ إذ أنَّ نفس هذه القناعة التي تحملها جهةُ صدور الخطاب ترجع إلى عقلية جماهيرية مفروضة!
يقول: ومن يقول بأنَّ كلامك في هذا المقال ليس من العقل الجمعي أو الجماهيري؟
فأقول: كلُّ ما في هذا المقال عبارة عن أصول وأسس علمية، وليس عن انفعال رأي عن قراءة للواقع. وظرف العقل الجماهيري هو هذا الواقع الخارجي، لا الأسس والأصول العلمية.
وعلى أيَّة حال، فإنَّ هذا الذي توهمه الراد نقضًا هو من دفاعات مبتنيات العقل الجمعي. هكذا هي المسألة في غاية التعقيد. وتزداد تعقيدًا كلَّما تداخل العقل العامي والجمعي مناقشًا ومحاورًا، فهو فاقد للقدرة على المواجهة العلمية إلَّا أن يُتخلَّص منه فيعود حامله إلى تجرُّده الصحيح.
تتميم:
غاية المُعلِّم من التعليم التحول بالمعلومة في نفس المُتَعلِّم إلى مَلَكَة، وهذا في غاية التعذُّر وبعيد المنال عن الخطاب الجماهيري.
ينشأ إعضال آخر، وهو ما يترتب على اكتفاء مصدر الخطاب الجماهيري ومن في بيئته بالتحولات الحالية وعدِّها الغاية من الخطاب. تفصيل ذلك يظهر لذوي النظر من التالي:
يرتبط العامِلُ والعمل بكيفية خاصَّة تمرُّ بمراحل ثلاث، هي: الحال، الملكة، الاتِّحاد.
أمَّا الأثر الحالي فيزول بزوال المُؤثِّر، كحمرة الوجه للخجل، والقرارات بسبب موعظة ما. مثلًا: يتَّخِذ من يسمع الأغاني قرارًا بالتوقف عن ذلك؛ لحديث سمعه من أحد العلماء أو المتدينين. غير أنَّ هذا القرار، غالبًا، سرعان ما يزول بمجرَّد الابتعاد عن المؤثِّر.
فيما تكون الملكة راسخةً في النفس، نادرًا ما تزول، فهي من مقتضيات توجُّه النفس وتركُّز الخطاب والعناية الخاصَّة، والأجواء المكمِّلة، وغير ذلك ممَّا يتحوَّل بالفكرة من مجرَّد أثر حالي إلى ملكة نفسية راسخة.
أمَّا الاتِّحاد فعندما تكون الملكة جزءًا من النفس، ولا تكون قابلة للزوال.
يتَّضح بذلك محلُّ الإعضال مع مصادر الخطاب الجماهيري؛ إذ أنَّهم يحملون الموضوعات المصيرية على التأثُّرات الحالية ويتوهمونها آثارًا غائية لخطابهم. والحقُّ أنَّ ذلك يزيد الطين ما يزيده من بلَّات وبلَّات.
دَفعٌ لإيراد مُحتَمَل:
لا بأس في الخطابات الجماهيرية بالمواعظ والبيانات التي لا تحتاج إلى تفصيل في مقام إلقائها، بل لا بأس بأي خطاب يكون بهذه الصفة.
وفي غير ذلك فإنَّه لا يُنقَضُ بخطابات أئمة الهدى من آل بيت محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)؛ وعلَّة ذلك أنَّهم أصحاب جوامع الكَلِم. فلا تغفل.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
29 جمادى الأولى 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………..
[1] – الأمالي – الشيخ الطوسي – ص 613
[2] – لسان العرب – ابن منظور- مادَّة (غ و غ)
[3] – المصدر السابق، مادَّة (ع م م)
[4] – من مقال للكاتبة ريتا فرج، جريدة الأخبار، بتاريخ 15 تموز 2011 للميلاد
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 370
[6] – راجع لكلِّ ذلك: مستدرك سفينة البحار – الشيخ علي النمازي الشاهرودي – ج 7 – ص 366 – 367