هي الحياة(١) .. تطالعنا تارة بأفراحٍ وأخرى بأتراح، ولا تنقضي هذي وتلك إلّا بنظرات متباينةٍ عند أبناء المجتمع كلٌّ بحسب ما يراه من حقٍّ وباطل وفساد وصلاح.
في خضم هذه الفوضى العارمة التي تسبّبها الأحداث المتسارعة الحاكمة: تتنقّح الجوهرة الثمينة النادرة .. نفسيّةٌ نفيسةٌ لابدّ أنّها بالاطمئنان عامرة .. هي شخصية المُنصِف؛ الذي يميّزُ مقامات الكلام في الوقت الذي يفرّق فيه بين الاعتقاد الشخصي وإطلاق الأحكام، فهو ليس مختلفًا عن بني جلدته فقد تحتّم عليه طبيعته الإنسانيّة النّظرَ في أحوال العالم بما يحويه من بشرٍ وشجر، إلّا أنّه لا يضع نفسه إلا في مكانه بحسب تكليفه(٢) فيقتضي ذلك في كثيرٍ من الموارد التحرّز عن الدّخول في زوبعات المشاكل التي تخلقها فوضى الحياة وما ذلك إلّا لسبب أجده رئيسًا بل محقّقًا لمعنى الإنصاف وهو علمك بأنّك إنسانٌ .. فإنّهذا المخلوق مهما كبر يظل محدودًا في دائرة تجاربه وخلفيّة أعماله بل وحتّى الجامع لتجارب الأولين والآخرين يظل محكوما بالعلم بالظّواهر تستتر عنه ما تخفيه الضّمائر والسّرائر لا يتمكّن من خرق القلوب ليجد الدوافع الحقيقة وراء كل فعل وها هنا يكمن الفرق فغيره يحكم على ذاك المسكين بالذّمّ تعسّفًا وعلى ذلك المتجبّر بالمدح تعجرفًا منطلقًا من نظرة قاصرةٍ ودعوى فارغة اقتحم بها وادٍ يستحيل على إنسانٍ أن يبصر فيه إلا بنورٍ من الله وأنّى للكثيرين ذلك! نعم لقد ابتلينا في الأعم الأغلب بعدم توقّفنا عند خفاء ظروف الناس عنّا وما أحاط أحكامهم من جوٍّ ضاغطٍ لا يمكن التفصّي منه..
ابتلينا بأنّا نرى الناس نحن ولا نراهم هم، فطبائعهم نهملها ونقضي عليهم بطبائعنا فنريد جميع ما يصدر منهم موافقًا لما وجدناه في أنفسنا، فلو حانت منّا التفاتةٌ بسيطة لقصورنا ذلك لما تجرأنا على النّاس بإطلاق ألسنتنا وقذفهم بأحكامنا. ومن هنا فإنّ المشكلات تزداد سوءً كلّما أوردها من لا إنصاف له ممّا أنتج لنا استباحةً لضمائر الناس فحقَّ لنا تخوينهم في الملأ العام وازدراءهم بتحليلات لا تستند إلّا لنظرة أقل ما يقال عنها أنّها ساذجة فما كان من ذلك إلّا ضيقًا في الأنفس وتعقيدًا للمشاكل.
ولا بأس أن أشير لتساؤل يمس ما نحن فيه حرت في الحصول على إجابته وهو من شقّين: لماذا نريد معرفة ما لسنا بوارده؟
وأعنّي أنّ فضول الآدميين أولئك وصل لبواطن الإنسان وما تكتنفه سريرته ! ثمّ لو كان سببًا عقلائيًّا ما يدفع تجاه هذه المعرفة: أولسنا من صنف الإنسان الذي قيل بأن اسمه مشتق من الأنس إذ يأنس كلٌّ منّا بصاحبه؟ إذًا لمَ لا تلتق بالطّرف الآخر وتستوضح ما قد أشكل عليك بدل أن تتخرّص فهمًا تُلبسه إياه بغير وجه حق؟
لو كنا نمتاز بالإنصاف الحكيم لحاولنا فهم الآخر إن استدعى المقام واكتفينا بذلك عن كثرة الكلام الذي لا يفضي إلا للشقاق والملام.
نعم إن للإنسان اعتقادات في نفسه لا يمكن أن يمنع من تكونها ولكن حذار حذار من جعلها منظارًا يُحكم به ظلمًا وعدوانًا ..
فلنجعل بيننا ما نراه لأنفسنا ولا نحكم في التعامل على بعضنا إلا بالخير والمداراة وحينها سنكون في الطريق الأمثل متحققين من كيف تورد الإبل.
السيّد علي العلوي
٩ رجب الأصب ١٤٤١هـ
(١) أتحدث هنا عن المجتمع المؤمن وحسب.
(٢) لابدّ من أن ننبّه على أن تكليفه المقصود هو المأخوذ من محله لا بالأهواء وبما يوافق الأنفس فيكون عذرًا عن العمل بما يملي عليه التكليف الصّحيح.