يعود القارئ بنظره إلى تصور الكتاب الذي قرأه، فيعيُدُ كتابة رؤيةٍ مُركَّزة حول ما جاء فيه، ويدون بعض الملاحظات مضافة إلى رأيه الإجمالي أو المُفصَّل. تُسمَّى هذه العملية في الاصطلاح الإنجليزي (review)، وليس ذلك (مراجعة) كما تُرجِمَتْ في المصطلح الأكاديمي العربي؛ إذ الأقرب هو الانفعال وليس المفاعلة، فالنظر الذي قرأ الكتاب يعود مُحمَّلًا بمادَّة علميةٍ ومعرفيةٍ جديدةٍ يقوم بصياغتها في تلخيص مُركَّز مع ملاحظاته ورؤيته الخاصَّة، وهذا في الواقع إعادة إنتاج للمقروء بما يناسب مقامٍ خاص.
في الواقع لم أتمكَّنُ بعدُ من الاطمئنان إلى تعبير عربي يفي بهذا المعنى، إلَّا أنَّني مُطمئنٌ إلى أنَّ مصطلح (مراجعة) غير مناسب، وإن استخدمتُه فمن باب التسامح.
وكيف كان، فإنَّ كتاب (حوارية الهِلال) عبارة عن 30 سؤالًا حول أحكام ثبوت الهلال طَرَحَهَا سماحةُ الفاضِلِ الشيخ محمود بن الحاج صادق النجَّار (دامت توفيقاته) على الأستاذ في الحوزةِ العلمية سماحة العلَّامة الشيخ محمود بن الحاج حسن آل الشيخ العالي (دامتْ بركاتُه)، ألحقها برسالةٍ في رؤية الهِلال لسماحة العلَّامة العالي. ومن بعدها ذكَّر بكلام للإمام الصادق (عليه السلام) مع المفضل بن عمر حول القمر، وختم بدعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا نظر إلى الهِلال، فالمصادر والفهرس.
الغاية من إجراء الحوار، والأسلوب المُختار:
ذكر المُحاوِرُ ما يظهر من كونه غايةً لإجراء الحوار، فقال في التمهيد: “فلا يخفى على القارئ الكريم ما يتبادر في الأذهان دائِمًا من أسئلةٍ حل موضوع الهلال وطُرُقِ إثابته خصوصًا في بدايات الشهور العبادية كشهر رمضان المبارك وشهر ذي الحجَّة الحرام، وقد ينتج أحيانًا بسبب غياب المعلومة سوء التقدير والاستيعاب لمناشيء الاختلاف بين الفقهاء (أيَّدهم الله تعالى) في ثبوت الأهلة لديهم”.
كما وبيَّن السبب من اختياره أسلوب المحاورة على غيره من أساليب الطرح، فقال في التمهيد: “وقد لمسنا مدى فاعلية استعراض المسائل العلمية في صورة حوار ونقاش لِما في ذلك من تنوُّعٍ في المحاور وسلاسة في الطرح وبساطة في الألفاظ”.
فظهر من مجموع الأمرين، الغاية والأسلوب المُنتخب، أنَّ الطبقةَ المخاطبة طبقةُ عامَّة الناس ممَّن يبحثون عن إجابات لأسئلة تدور في أذهانهم حول أحكام ثبوت الهِلال، وإنَّما كان طرف الحوار هو العلَّامة العالي (دام عزُّه) لسابق تجربة حوارية مع نفس المحاور كان موضوعها قضايا عاشوراء.
أسئلة الحوار:
جاءت الأسئلة -فيما يرى النظر القاصر- في محاولة لإشباع ثلاثة عناوين رئيسية.
- المباني الفقهية وحيثياتها في موضوع الحوار.
أمثلة:
السؤال (3): ما هي النظريات والمباني في إثبات الهِلال.
السؤال (8): المقصود بحكم الحاكم الشرعي في الهِلال.
السؤال (22): معنى العدالة في ثبوت الهِلال.
- حل بعض الإشكالات العلمية.
أمثلة:
السؤال (6): هل ليلة القدر واحدة أم متعدِّدة؟
السؤال (20): حكم شهادة المرأة في رؤية الهِلال.
السؤال (25): هل يسري حكم الحاكم الشرعي على الجميع بما فيهم الفقهاء؟
السؤال (29): التعارض بين الشهود وعلم الفلك.
- حل بعض الإشكالات المجتمعية العرفية.
أمثلة:
السؤال (7): الهِلال واختلاف التقليد في الأسرة الواحدة.
السؤال (16): المُكلَّف بين علماء بلده ومرجع تقليده.
السؤال (19): توحيد المناسبات والعبادات المخصوصة بزمن معين.
أسلوب سماحة العلَّامة العالي (دامت بركاته) في الإجابة:
بدا لي انتخاب سماحة الشيخ (حفظه الله) لأسلوبٍ علميٍّ اتَّسمَ باللغة والعمق التخصصين بالمقدار الذي يُحقِّقُ أمرين يكفلان الوصول بالحوار إلى الغاية المنشودة:
الأوَّل: طمأنة عامَّة المؤمنين إلى أنَّ المسألة بأيدي علماء لا يحركون ساكنًا دون اطمئنان إلى براءة ذممهم عند الله تعالى.
الثاني: تخصصية المباني العلمية تمنع العامَّة منعًا أدبيًا من الخوض في النتائج والأحكام دون الإحاطة بمقدماتها فضلًا عن الإحاطة بها.
لم يكن قلمُ سماحة الشيخ (دام عزُّه) في مقام محاكاة الفهم العامِّي، كما ولم يكن تخصصيًا يحذره العامَّة، ولكنَّه كان على حدِّ برزخٍ دقيقٍ بين هذا وذاك، فحقَّق الأمرين بمهارة الخبير واتقان الحكيم.
الرسالة المُلحَقة:
قراتُ الرسالةَ التي قال سماحةُ العلَّامَة العالي (حفظه الله تعالى) في منشأ مسائلها: “فهذه رسالةٌ في المسائل المتعلقة برؤية الهِلال جرى بحثها في مجلس الدرس مع ثلَّة من أهل العلم زاد الله في توفيقهم، أحببتُ أن أُحرِّرها في رسالة مستقلة ليعم نفعها”، فوجدتها هي المادَّة البحثية التي أثرَتْ الحوار المزبور، لذا فإنَّ إلحاقها به كان في غاية التوفيق والموضوعية.
ملاحظات:
- كنتُ أرجو اهتمامًا أكبر بالمقدَّمة لتكون للقارئ منصةً يُشرفُ من خلالها على الحوار بوضوح، بأن تُذكَر فيها مثلًا:
- الأسباب الموضوعية لتشكُّل عقليات وثقافة الإشكال على أحكام الهِلال ونتائجها.
- مفاتيح الحلول.
- موانع الحلول.
وما إلى ذلك ممَّا يُعطي المقدمة وزنها المُفتَرض.
- لم أقف على الداعي من إفراد تمهيد قب المقدمة، فهذا يُطلَبُ عادة عند وجود ما يستوجبه في البحوث أو الدراسات أو المطالب التي يصعب الكشف عن جهاتها وحيثياتها، فيكون التمهيد بمثابة المُعين على تجاوز عقبة الانغلاق أو الغموض أو ما شابه، ولذلك تأتي عادة بعد المقدمة.
لذا قالوا بأنَّ “المقدمة أشبه بعقد شرعي بين الباحث والقارئ”، وهي “التي تهيئ القارئ في وقت قصير للتفاعل مع البحث، وهى المدخل الحقيقي والبوابة الرئيسية له، وهي محصلة البحث وتوجهاته، وبيان لطبيعة البحث والباحث، وهى التي تعكس صورتهما الحقيقية”.
فيما كان التمهيدُ توطئةً “للدخول إلى البحث كالانتقال من الكلِّ إلى الجزء، وهولا يشتمل على مباحث هي من صلب البحث، ويقع “بين المقدمة والبحث، ولابد وأن يكون رابطًا بينهما، وهو ليس ضروريًا في كل البحوث، إلَّا عندما يرى الباحث أنَّ القارئ سيجد فجوة بين المقدمة والبحث”، وبشكل عام يتناول الكاتب “في التمهيد موضوعات متناثرة، ليست مكانها في صلب الرسالة أو في متن البحث، وإنَّما يضطر الى تناولها وذلك لتهيئة ذهن القارئ الى ما سيرد في صلب البحث”، كما و”يقوم الباحث في التمهيد بتحديد الاصطلاحات أو المفاهيم المتعلقة بالبحث”.
نعم، لا أُحمِّلُ الحوارية ما لا تحتمل، إلَّا أنَّني وددتُ الإشارة إلى عدم وقوفي على الحاجة من (التمهيد) الذي تفضل به المحاور سماحة الفاضل الشيخ محمود النجَّار (دامت توفيقاته).
- قد يكون من الأفضل منهجيًا تحديد عناوين رئيسية تُستوفى مسائلها بمجموعة من الأسئلة، فيكون الحوار مُرتَّبًا بحسب تدرج الغايات المتوسطة بين العلة الغائية والغاية.
- كنتُ أرجو لو أنَّ مجموعة من التوصيات تُلحق بالحوارية، كحاجة الساحة إلى عقد ندوات وحوارات حيَّة وما شابه ذلك ممَّا يكون امتدادًا لحوارية الهِلال.
الرأي الشخصي:
وجدتُ هذا الكتاب مادَّةً علميةً لتزكية الناس على وفق أسس وادبيات رصينة، فالقضية ليست حول أحكام الهِلال ومسائله فحسب، بل متوسعة ومتمددة في الحوار بما تحقَّقت بها أبعادٌ تثقيفية في غاية الأهمية، منها:
- تصحيح ثقافات البعض ومواقفهم شبه السلبية من العلماء.
- إعادة الاعتبار في أذهان بشكل واضح إلى مقام التخصُّص وعدم مناسبة خوض من لا يعلم في ما لا يعلم.
- ضرورة التراجع عن عقلية تحكيم الأعراف المجتمعية على الدين والمباني الفقهية.
- إظهار أهمية سؤال العالِم والإفادة من بياناته وتوجيهاته.
وغير ذلك من الفوائد المهمَّة التي تستدعي مِنَّا المساهمة الجادَّة في نشر هذا الكتاب والدعوة إلى قراءته بموضوعية وتعقل.
كلُّ الشكر والتقدير لسماحة الشيخ محمود النجَّار على ما يقوم به من جهود رائدة في التوعية والتبليغ. أمَّا سماحة العلَّامة العالي فرجائي أن لا ينساني في ضياء ليله..
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
18 ربيع الآخر 1441 للهجرة
البحرين المحروسة