يطرحُ بعضُ المؤمنين، وغيرُهم، مَسألةَ التَغَيُّر في الموقفِ مِنَ المقُولِ إذا تغيَّر القائِلُ، فما للتو كان مرفوضًا أصبح مقبولًا عندما تغيَّر قائلُه، والعكس كذلك. وفي مقام رفضِ هذا التغيُّر في الموقف من المقول، يُستشهدُ بِقَول أمير المؤمنين (عليه السلام): “انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال”.
لمناقشة المسألة أُقدِّمُّ بمقدِّمات:
الأولى:
بالنسبة إلى حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد وجدتُهُ في كتاب غُرر الحِكم ودُرر الكلم، للقاضي ناصح الدين أبي الفتح عبد الواحد بن محمَّد التميمي الآمدي (ت: 550 للهجرة)، وهو كالتالي: “خذ الحكمة ممن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال”[1].
تتغير دلالة الحديث من حيث السعة عند اقتطاع جزئه الثاني والاكتفاء به، فيكون النظر إلى مُطلَقِ القول دون النظر إلى القائل، في حين أنَّ وضع الجزء المقتطع في السياق الطبيعي للحديث يضيق الدائرة لتشمل الحِكمة دون غيرها من الأقوال والأخبار وما شابه، ويكون الإرشاد إلى دفع مانعية شخص القائل للحكمة من الأخذ بها.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “الحِكمَةُ ضَالَّةُ المؤمِنِ، فَحَيثُمَا وَجَدَ أحَدُكُم ضَالَّتَهُ فَليأخُذهَا”[2].
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): “خُذِ الحكمَةَ أنَّى كانتْ؛ فإنَّ الحِكْمَةَ تَكُونُ في صَدرِ المنُافِقِ، فَتُلَجْلِجُ في صَدْرِهِ حتَّى تَخرُجَ فَتَسكنُ إلى صَواحِبِهَا في صَدرِ المؤمِنِ”[3].
وقال (عليه السلام): “قد يَقُولُ الحِكْمَةَ غيرُ الحَكيمِ”[4].
اتَّضح، كما يظهر للنظر القاصر، أنَّ مورد الحديث هو الحِكمة، وضرورة أن تُؤخَذ دون أن يُؤثِّر في ذلك شخص من أتى بها، فسواء كان فاسِقًا أو منافِقًا، أو غير ذلك، فإنَّ الحِكمةَ تبقى حِكمةً، وهي ممَّا يبحث عنه المُؤمِن، بل هي ضالَّتُه.
لذا، فإنَّ شمول الحديث لغير الحِكَم يحتاج إلى دليل؛ إن كان الكلام في الأدِلَّة النقلية.
الثانية:
يدعو البعضُ؛ بداعي الموضوعية والتجرُّد، إلى ضرورة تخلُّص الباحِث أو المُفكِّر أو صاحب النظر من ما يُعبِّرون عنه بالضغط الآيديولوجي، وإلَّا فلن تكون نتائج البحث أو الفكر أو النظر سالمةً من المُسبقات والمؤثرات الخارجة عن الموضوع.
عُرِّفَت الآيديولوجيا بأكثر من تعريف، منها أنَّها:
“النَسَقُ الكُلي لـلأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامَّة الكامِنَة في أنماطٍ سلوكيةٍ مُعَيَّنَةٍ. وهي تُسَاعِدُ على تَفسيرِ الأُسُسِ الأخَلاقية للفعل الواقعي، وتَعْمَلُ على تَوجيهِهِ. وللنسق المقدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه”[5].
فالآيديولوجيا إذًا، مجموعةُ المُبتنيات الموجودة في شخصية الإنسان فردًا وجماعةً، منها ما يتكون من التحصيل العلمي والمعرفي الواعي، ومن موارده المدارس والجامعات، والحوزات العلمية، وحلقات التدارس والتباحث، وما نحو ذلك من مواطن الرفد الخاص. ومنها ما يتكون بفعل البيئة، اجتماعيةً وتربويةً، وهذه في الغالب لا تقع تحت سلطة الاختيار الحرِّ.
إنَّ المطالبة بالتجرُّد عن الآيديولوجيا الخاصَّة مطالبةٌ بالمحال؛ إذ أنَّ المُقَوِّمَ للفكر مٌبتنياتُه الخاصَّة، ودونها لا يعود فِكرًا، ولذا، نجد من يدعو إلى هذا النوع من التجرُّد أكثر تمسُّكًا بآيديولوجيته الفكرية، غير أنَّه يطلق عليها مصطلحًا آخر، مثل: المبتنيات، أو التبانيات، ليبقيها في مساحة الموضوعية التي يُحدِّدها هو، ويكون الخارج عنها مُتَّهمًا بالتأدلج والجمود والانقياد إلى المسبقات الفكرية!
إنَّ الأمر لا يعدو، في النظر القاصر، عن استعمال مصطلحات التجرُّد والأدلجة وما نحوها أسلحةً لإقصاء الآخر وتضعيفه.. لا أكثر.
الثالثة:
يقوم الإنسانُ نفسًا وذهنًا وفِكرًا على مجموعة من القوانين التكوينية التي لا يمكن لكائن من كان نقضها أو التخلص منها، وإن أُنكِرتْ لسبب أو لآخر، فإنَّ مُنكرها يدخل حينها في طريق من التناقضات التي يمتنع علاجها.
من تلك القوانين: القدوة، والتأسِّي، والتقليد، والمُقدَّس.. وقوانين التقييد والتخصيص المقاميين.. فالإنسان لا يتمكَّن من مجرَّد التفكير المنتظم دون وجود قدوة ولو تصورية ذهنية، وكذا التأسِّي والتقليد، كما ولا يتمكَّن من العيش دون وجود مُقَدَّسٍ لا يتصور طروء عيب عليه، وقد يكون ذلك المُقدَّسُ فكرةً أو نظريةً أو ما شابه، إن لم يكن إنسانًا..
الرابعة:
للكلام دلالات ثلاث، فعندما تُلقى كلمةٌ ما، فإنَّ الذهن يتلقاها من خلال المُفَسِّر اللغوي أوَّلًا، وفي هذا المستوى لا يُفهم من كلمة (الطاولة خضراء) -مثلًا- غير معناها اللغوي، أي المعنى الذي وضِع له اللفظ، فلا يهم إن كانت الكلمة صادره من عاقل أو غير عاقل، بل ولا يهم حتَّى لو صدرت نتيجة اصطكاك حجرين؛ إذ أنَّ موضوعها هو المعنى اللغوي ولا غير. تُسمَّى هذه الدلالة بالدلالة التصورية، ولا يترتب عليها شيءٌ غيرَ حضور المعنى في ذهن السامع.
ثُمَّ أنَّ نفس السامع ينظُر إلى جهة صدور الكلمة، فيجد إنسانًا عاقِلًا قد قالها، فيحكم بكونها مقصودةً له، إلَّا أنَّ القصد لا يعني الجدَّ، فقد يكون قد قالها هازلًا أو ما شابه. تسمَّى هذه الدلالة بالدلالة التصديقية الأولى. وتأتي بعدها الدلالة التصديقية الثانية في حال أحْرَزَ السامِعُ الإرادةَ الجدِّيةَ للقائل، فيترتب الأثر.
إذا اتَّضحت تِلكُمُ المقدِّمات الأربع، فإنَّ الإنسان عندما يتلقَّى قولًا ما، فإنَّه لا يتمكَّن من تجريده عن قائله؛ وذلك لكون القائل مأخوذًا بشكل قانوني طبيعي في موضوعية ودلالة المقول، ولهذا نرى تغيُّر دلالة القول بتغيُّر القائل.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[6]، “وكان المسلمون يقولون: يا رسول اللهِ، راعنا؛ أي: استمِعْ مِنَّا، فَحَرَّفَتِ اليهودُ، فقالُوا: يا مُحَمَّد، راعِنَا – وهم يُلحِدُونَ إلى الرعونة – يُريدُونَ بِهِ النَقيصَةَ، والوقيعةَ، فلما عُوتِبُوا، قالوا: نقول كما يقول المسلمون. فَنَهىَ اللهُ عن ذلك، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا)”[7].
هي كلمةٌ واحِدةٌ، إلَّا أنَّ معناها يختلِفُ بحسب قصد قائلها، وهذا بالرغم من ظهورها في معنى (استمِعْ مِنَّا)، وهو ما يدلُّ عليه عدم التفات المسلمين إلى ما أراده اليهود.
كما وأنَّ الموقِفَ مِنَ المقُولِ يَخْتَلِفُ بحسب الجهة التي قد تكون خافية على المتلقي، فيكون الخبر في ظاهره مُنكَرًا، إلَّا أنَّ ناقله إذا كان من العقلاء والثقات، فإنَّ العاقل يتأنَّى في حكمه، وقد يُسلِّم بالصحة ثقةً في القائل، وهذا أمر طبيعي يفرضه قانون القدوة وما في حكمه من قوانين مركوزة في عمق الوجدان الفكري للإنسان.
عبارة معترضة: هل رأى أحدُنا لينينيًّا ينتقد أو يُقِر بنقيصة في لينين؟ إن كان، فهو فرد نادر، وإلَّا فالنفي سيَّالٌ لا يقف أمامه سدٌّ؛ وما ذاك إلَّا لكون المُقوِّم لهذه الحالة قانونٌ فكريٌّ تكوينيٌ.
عن سفيان بن السيط، قال:
“قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعِلتُ فداك، إنَّ الرجُلَ ليأتينا مِنْ قِبَلِكَ فيُخبِرنا عَنْكَ بالعظيمِ مِنَ الأمْرِ، فَيضيقُ بِذَلِكَ صُدُورُنا حتَّى نُكَذِّبَهُ.
قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أليس عَنِّى يُحَدِّثُكُم؟
قال: قلتُ: بلى.
قال: فيقولُ لليل أنَّه نهارٌ وللنهارِ أنَّه ليل؟
قال: فقلتُ له: لا.
قال: فقال: رُدَّهُ إلينا؛ فإنَّكَ إنْ كَذَّبْتَ فإنَّما تُكَذِّبُنَا”[8].
وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّ رجُلًا قال له: يا بنَ رسول الله، الرجلُ يُعرَفُ بالكذب، يأتينا عنكم بالحديث، وما نعرفه، أنرده عليه؟
قال: يقول لكم إنَّ جعفرَ بن محمَّد يقول: إنَّ الليلَ ليس بليلٍ، والنهارَ ليس بنهار؟!
قال: ما يبلغُ إلى هذا.
فقال (عليه السلام): إنْ قالَ لكَ: إنَّ جعفرَ بن محمَّد يقول: إنَّ الليل ليس بليل، والنهارَ ليس بنهار، فلا تُكَذِّبه؛ فإنَّك إنْ كَذَّبْتَهُ إنَّمْا كَذَّبْتَ جعفرَ بن محمَّد، قال اللهُ سبحانه وتعالى (وما أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إلَّا قَليلًا)، وما يعلم السامِعُ ما قُصِدَ بالحَديثِ”[9].
من الواضح أنَّه لو قال قائلٌ عن الليل ليس بليل، وعن النهار ليس بنهار، فإنَّ أحدًا لن يصدِّقه، وسوف يكون مضحكَةً للساخرين، إلَّا أنَّ الأمر ليس كذلك إذا كان القائِلُ هو الإمام المعصوم (عليه السلام).
لا شكَّ في أنَّ للقائل اعتبارًا خاصًّا يؤخذ في دلالة المقول وفي الموقف منه، ولا صحَّة لإنكار هذه الحالة والتشنيع عليها، فإنَّ نفس المُنكر قد لا يتسامح في الإخلال بالإرجاعات والإحالات للمقتبسات والنظريات والآراء المكتوبة؛ طلبًا للأمانة العلمية من جهة، ولدخالة شخص صاحب الرأي في الرأي المنقول، وقد يُعتَبَرُ رأيٌ لاعتبار شخص صاحبه، ويقل اعتبار رأي آخر تبعًا لدرجة اعتبار صاحبه.
لا نقول بالوقوف عند هذا الحد الذي تفرضه الاعتبارات الشخصية، إلَّا أنَّنا نرفض إنكاره، فهو أمر طبيعي ولا ينبغي أن يكون مُزعِجًا لأحد.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
29 ربيع الأوَّل 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………….
[1] – غرر الحكم ودرر الكلم – عبد الواحد بن محمَّد الآمدي – ص 199، وبنفس اللفظ في: عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص 241
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 167
[3] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 4 – ص 18
[4] – عيون الحكم والمواعظ – علي بن محمد الليثي الواسطي – ص 365
[5] – موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، عن: موسوعة مقاتل من الصحراء – مفهوم الآيديولوجيا
[6] – الآية 104 من سورة البقرة
[7] – التبيان – الشيخ الطوسي – ج 1 – ص 387
[8] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 557 – 558
[9] – مختصر البصائر – الحسن بن سليمان الحلى – ص 20