[وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ]
أنزل الله تعالى إلينا أحكامًا نَعبُده بها، منها ما فَرضه علينا ولا يسعنا تركُه، ومِنها ما جعل الرُّخصة فيه، وعلى كلا القسمين لا يجوز لنا الاستنكار، أو عدم القبول لحكم من الأحكام بسبب عدم إدراك الغاية منه، أو عدم فهم معناه من حيث هو فعل من الأفعال
.
إنَّ علمنا الإجمالي بوجود المصلحة في أمر الله، ووجود المفسدة فيما نهى عنه تعالى، كافٍ لقبول كل ما كان من قِبَلِه سبحانه، وهو قول مولانا الرضا (عليه السلام): (إنَّا وجدنا كُلَّما أحل الله سبحانه ففيه صلاح العباد وبقاؤهم، ولهم إليه الحاجة التي لا يستغنون عنها، ووجدنا المحرم من الأشياء، لا حاجة للعباد إليه ووجدناه مفسدًا داعيًا إلى الفناء والهلاك).
ليس المقصود من الكلام المنع عن محاولة العلم بعلل الأحكام وغاياتها، بل المراد أن عدم العلم بذلك لا يضر في حقيقة صلاح الأوامر وحقيقة مفسدة المناهي.
لا شكَّ في أنَّ معرفة المعاني الواقعية للعبادات وغاياتها تورث حسن التوجه فيها وزيادة الإذعان إليها، ففرق بين من يأتي بالصلاة دون أن يقف على معانيها، وبين من يأتي بها مع المعرفة، فالثاني يسعى لتحقيق هذا المعنى في صلاته، أما الأول فمع جهله بالمعاني لا يمكنه السعي إليها، وهذه المعرفة لا تكون إلا عن طريق الواسطة بين الخالق والمخلوق والتي جعلها الله لأهل البيت عليهم السلام.
إنَّ من الأمور المهمة في الدين، والتي ندب إليها الشارع، الاستغفار والتوبة، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}. فما معنى المغفرة والتوبة، وما النسبة بينهما؟
أصل معنى الغَفْر هو التغطية والستر، وكل شيءٍ تستره فقد غفرته، ومنه التجاوز، والاستغفار من الذنب هو الطلب من الله تعالى ستر الذنب والتجاوز عنه، فإذا غفر الله ذنبًا فقد محاه، فعن الشيخ الطوسي بإسناده عن الشعبي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: “العجب ممن يقنط ومعه الممحاة، قيل: وما الممحاة؟ قال: الاستغفار”.
يستحب الاستغفار في نفسه وإن لم يكن للمؤمن ذنب، وهو ناجع في طلب الرزق، وقد رُويَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: “إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}”. وفي الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يستغفر الله في كل يوم.
أما التوبة فمن التوب، ومعناها الرجوع، والتوبة إلى الله أي الرجوع والإنابة إليه، ولا تكون إلا مع العزم على عدم العودة إلى الذنب، والندم عليه، وتأدية فرائض الله تعالى، كما في روايات أهل البيت عليهم السلام.
يحسُنُ بنا العلم بأنَّ التوبة سبب لستر العيوب، ومحبة الله تعالى، فقد روى معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: “إذا تاب العبد توبة نصوحًا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة)، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: (ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب”.
مما تقدم، يمكن التفريق بين الاستغفار والتوبة من جهة أن الاستغفار مقدمةٌ للتوبة، ويمكن تأييد هذا المعنى بالآية المتقدمة في الكلام حيث عطف (التوبة) على (الاستغفار) بـ(ثم)، و(ثم) تفيد الترتيب بمهلة، والنسبة بينهما أن كل تائبٍ مستغفر، وليس كل مستغفر بتائب، فقد يستغفر الرجل لذنبه، ولكنه لا يقلع عنه ولا يتوب إلى الله، وقد عبرت الرواية عن من كان حاله هذه كالمستهزئ، وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ”.
نخلص إلى أنَّ كمال الاستغفار عدم الرجوع إلى الذنب والتوبة إلى الله تعالى، وقد سأل كميل بن زياد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عن أصل الاستغفار ما هو ؟ فقال عليه السلام: “الرجوع إلى التوبة من الذنب الذي استغفرت منه وهي أول درجة العابدين”.
وعلى كل حال، فإنَّ الله تعالى لم يعلمنا الإستغفار إلا لكي يغفر لنا، ولم يفتح لنا باب التوبة إلا ليستقبلنا من خلاله، ولو تكرر الذنب منا وعدنا إليه فإن رحمة الله أوسع وبابه لا يغلق.
أختم الكلام بما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: “يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الايمان.
قلت: فإن عاد بعد التوبة والإستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟!
فقال عليه السلام: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟
قلت: فإنه فعل ذلك مرارًا، يذنب ثم يتوب ويستغفر الله.
فقال عليه السلام: كلما عاد المؤمن بالإستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لبلوغ مغفرة لا نحتاج بعدها إلى مغفرة أبدًا، وإلى توبةٍ لا انقطاع لها، ببركة رسوله صلى الله عليه وآله حيث يقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}، والحمد لله رب العالمين.
حسين يوسف طارش
١٨/ ربيع الأول/ ١٤٤١ للهجرة
على مهاجرها وآله أفضل التحية والسلام
1 تعليق
بارك الله فيك ، وفقك الله لخدمة دين الاسلام .. والمسلمين .