جاء عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: “طَلَبَةُ العِلمِ ثلاثة، ..، إلى أن قال : وصَاحبُ الفِقهِ والعَقلِ ذو كآبَةٍ وحزنٍ وسَهَرٍ، قَدْ تَحَنَّكَ في برنِسِهِ، وقام الليلَ في حندسِهِ”.
قال العلَّامة المجلسي (طاب رمسُه) في تحقيقه لمعاني الحديث: “ولنرجع إلى معنى التَحَنُّك، فالظَاهِرُ من كلام بعض المتأخرين هو أنْ يُدير جُزْءًا من العمامَةِ تَحْتَ حَنَكِهِ ويغرزه في الطرف الآخر، كما يَفْعَلُهُ أهلُ البَحرينِ في زَمَانِنَا”[1].
هكذا كان العلَّامة المجلسي (علا برهانه)، وغيره من أعاظم وأكابر الطائفة، يستشهدون بتدين البحراني والتزامه بما جاء في النصوص الشريفة، فيما يذهب البعضُ، اشتباهًا، إلى القول بجهل أجدادنا وبُعدِهم عن عناوين التقدم والحضارة، فهم، في نظر هؤلاء، لم يكونوا أكثر من فلَّاحين وصيَّادين، سِمَتهم البساطة والطيبة.. وربَّما السذاجة!
تصحُّ هذه النظرة إلى واقع الآباء والأجداد عندما يكون معيار التقدم هو اختراع كل ما يتغلَّب به الإنسانُ على الطبيعة وموازينها، كما في مركبة النقل الميكانيكية، وجهاز الاتصال الإلكتروني، ومُسخِّن الماء الكهربائي، وقس على ذلك ممَّا يُرَكبُه الإنسان لخرق الحركة الطبيعية لهذا الخلق العظيم، ولذلك فإنَّ من يبتعد عن استعمال شيءٍ من مثل هذه المخترعات البشرية يكون في نظر العالمِينَ مُتخلِّفًا جامدًا رجعيًا!
نعم.. لم يخترع أجدادُنا مركبةً ميكانيكيةً ولا مذياعًا إلكترونيًا، ولكنَّهم أتقنوا حفظ واستعمال وممارسة كل ما ينتهي بهم إلى رضا الله سبحانه وتعالى، وبذلك فهم كانوا، ولا يزالون، وسيبقون إلى مدى الدهر، أكثر الناس فهمًا ومعرفةً وذكاءً وعقلًا؛ فقد أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) على سؤال: ما العقل؟ قال: “ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ بِهِ الجنان”[2].
لا ينبغي لأحد أن تذهب به الظنون؛ فمن أراد الاختراعات التقنية الحديثة، كان له ذلك، ولكن لا يصحُّ منه الاستنقاص من أجدادنا العِظام واتِّهامهم بالجهل والسذاجة وعدم الوعي كالذي نسمعه كثيرًا من البعض عندما يكون الحديث عن بعض العادات القديمة، ومنها تبخير المريض والدار طردًا للعين والحسد!!
فليكن منَّا الانتباه جادًّا إلى أنَّ كبراءنا من الآباء والأمهات، لا يفعلون شيئًا، في الغالب، إلَّا ويستندون فيه إلى نصٍّ عن المعصومين (عليهم السلام) قد أفادوه من عالِم المدينة أو القرية، وكان العمدة في أخذهم هو التسليم لما ورد عنهم (عليهم السلام)، وفي هذا أيضًا هم يستندون إلى أحاديث قد استفاضت عن السادة الأطهار (عليهم السلام)، منها ما عن زيدٍ الشَحَّامِ، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلتُ له:
“إنَّ عندنا رجُلًا يُقَالُ له كُلَيَب، لا يَجِيئُ عَنْكُم شَيءٌ إلَّا قَالَ: أنا أُسَلِّمُ، فَسَمَّينَاهُ كُلَيبَ تَسْليم!
قال زيدٌ: فَتَرَحَّمَ عليه. ثُمَّ قال (عليه السلام): أتَدرُونَ ما التَسليمُ؟ فسكتنا. فقال (عليه السلام): هو واللهِ الإخبَاتُ، قول الله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ)[3]“[4].
لا شبهةَ في أنَّ كُليبًا لم يكن ليصدِّق بكلِّ حديثٍ يُنسَبُ إلى الأطهار من آل محمَّد (عليهم السلام) تصديقَ سذاجة وقلَّة وعي؛ بل الظاهر من تأييد الإمام (عليه السلام) لما كان عليه الرجل تسليمُهُ لهم (عليهم السلام) تسليمَ انقيَادٍ تَامٍّ خالصٍ، دون أن يُدخِل إعمالاته الثقافية الخاصَّة في تقييم الحديث وتوجيهه.
ويُؤيد هذا ما جاء عن سدير، قال: قلتُ لأبي جعفرٍ (عليه السلام): “إنِّي تركتُ مَواليكَ مُختَلفين؛ يَتَبَرَّأُ بعضُهم من بعض!
قال: فقال (عليه السلام): وما أنت وذاك، إنَّما كُلِّفَ الناسُ ثلاثة: معرِفَة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد إليهم فيما اختلفوا فيه”[5].
فالمُؤمِنُ الحقُّ لا يكون إلا متواضِعًا خاضِعًا أمام ما ورد عنهم (عليهم السلام)، وإن توقَّف في حديث عن عِلمٍ وصحَّة طريقةٍ، ردَّه إليهم (عليهم السلام) متجنبًا مزالق الجرأة وقواتل تعابير الاستنقاص والتضعيف، ولذلك أُثِر عن أجدادنا (رحمهم الله) قول: (قَلِّدها عالمًا واطلع سالمًا)، وقد كنَّا في بعض مراحل حياتنا نرى هذه العبارة من عبارات الاتِّكال، إلَّا أنَّنا اليوم نعي مدى عمقها وعمق مداها، فالمهم عند المُؤمِن الكيس الفطن الحصيف أن يكون سالِمًا آمِنًا من المُؤاخذة والسُؤال، ولا طريق إلى ذلك غير اللجوء إلى أهل الاختصاص، ولذلك قالوا: (قلِّدها عالِمًا)، وليس أي أحدٍ، قتنبَّه إلى قوَّة وعي الأجداد بحجية قول أهل الاختصاص من علماء الدين، وهذا في الواقع مِنْ العُمَدِ في مسألة التقليد.
بين أيدينا مجموعة من العادات والإجراءات التي كانت من الأدبيات عند أجدادنا الكرام، وهي اليوم مستهجنة من البعض، وخصوصًا من الطبقة التي لا تَقْبَل بِغَيرِ مَا يُثبتهُ البحث العلمي والتجربة الواقعية الظاهرة علَّةً ومعلولًا، ومن ذلك مسألة العين والحسد..
هنالك من يرفض التصديق بمسألة العين والحسد، وإن اجتنب الإنكار الصريح؛ فذاك لورودها في الكتاب العزيز، وإلَّا فهو في قرارة نفسه يرى القول بها مخالفة واضحة للعقلية العلمية العصرية الحضارية، وأمَّا طرد العين والحسد بالبخور، فهذا، عنده، ممَّا لا يُغتفر، وقد يُقالُ بِضَرُورَةِ عزل من يتبنى مثل هذه الأمور وإبعاده عن المجتمع، فهو بحسب ميزان العصر يُرَوجُ للخرافات والخزعبلات!
نتجاوز هذا القول وذاك؛ فـ”القولُ منِّي في جميع الأشياء قول آل محمَّدٍ، فيما أسَرُّوا وما أعلَنُوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني”[6].
جاء عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: “إنَّما شِفَاءُ العَينِ قِراءَةُ الحمدِ والمعوذتين وآيةِ الكُرسِي، والبَخُورِ بالقُسْطِ والمُرِّ واللُبَانِ[7]“[8].
إنَّ من أهم ما يكشف عنه التسليم لما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) اليقينَ بالغيبِ الذي يُسَكِّنُ نَفسَ المؤمن النبيه الواعي فلا يجهل في مثل هذه الموارد بالسؤال عن العلل التجريبية المخبرية، وهذه عقيدة برهانية تفتح آفاق النفس على الإيمان والتقوى، ولذلك كان أجدادنا من أرفع وأرقى أمثلة الطهارة وسمو النفس.
نعم، ربَّما لا نقف على أصلٍ لبعض ما قد دَرَجَ عليه الآباء والأجداد، إلَّا أنَّه في الغالب ليس ممَّا تترتَّب عليه آثارٌ تستدعي التصدِّي، ولذلك سَكَتَ عنها العلماء؛ لحكمتهم ومعرفتهم بما يُتكلَّم فيه وما يُترَك على حاله. ومع ذلك فإنَّ التدقيق ينتهي بنا إلى سمة البناء على أصول حديثية أفادوها من العلماء والفضلاء، وهي السمة العامَّة التي كان عليها أجدادنا الكرام.
سمعتُ أحدَ الشَيَبَةِ القيروانيين يقول يومًا؛ وقد وضعوا أمامه صحن السمك: أين التمر؟ وهل يُؤكل السمك ولا نُتبِعه بتمر؟ أحضروا التمر وإلَّا فارفعوا الصحن من أمامي!!
لم يعاصر العمُّ أحدَ الأئمة (عليهم السلام)، غير أنَّه جسَّد التسليمَ لِمَا جاء عنهم؛ فعن مولى لأبي عبد الله (عليه السلام)، قال: دعا (عليه السلام) بتمرٍ بالليل؛ فأكله، ثُمَّ قال: ما بي شهوته؛ ولكنِّي أكلتُ سَمَكًا. ثُمَّ قال: ومن باتَ وفى جَوفِهِ سَمَكٌ لم يُتبعْهُ بتمرٍ وعَسَلٍ، لم يزل عرقُ الفَالج يَضربُ عليه حتَّى يُصبِح”[9].
سمعتُ عن حالة الاضطراب التي يعيشها الأولون إذا لم يُرِق صاحِبُ البيتِ الجديدِ بين يَدَي بيته دمًا، وهي حالة يسخرُ منها بعض أبناء هذا العصر! فهل هم يسخرون من الأجداد، أم أنَّهم من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يسخرون؟
قال (صلَّى الله عليه وآله): “من بَنَى مَسكَنًا فليذبح كبشًا سَمينًا، وليُطعِم لَحْمَه المساكين، ثُمَّ يقول: (اللهم ادْحَر عنِّي مَرَدَةَ الجنِّ والإنس والشياطين، وبارك لنا في بيوتنا) إلا أُعطِيَ ما سَألَ”[10].
هنالك الكثير ممَّا لا يتخلَّف الأولون عن حكمه، وبقليل من التتبع فإنَّنا نجد له أصلًا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهنا أُكرِّر، للضرورة، على وجود شيءٍ من ذلك لا أصل له، إلَّا أنَّه آمِنٌ لا يُخاف له أثر، وإنَّما يُضخمه بعض المُشتبهين فيصورونه من التخاريف التي تُسيء للمذهب، والحال أنَّ شيئًا ممَّا يقولون ليس بصحيح، وليس هو أكثر من تهويلات يتبناها من لا شُغل له، وذاك المفتون بالعصر وما يراه منجزات حضارية!
كان أجدادنا أمِّيين لا يقرأون كتابًا ولا يكتبون، ولكنَّهم أمضوا حياتهم في سكينة ووقار واستقرار؛ مسلِّمين أمرهم لله تعالى ولسادتهم من آل بيت محمَّد (عليهم السلام)، وبذلك حافظوا على الدين، فحفظوا لنا المساجد والمآتم ومجالس الدرسِ، خصوصًا في شهر رمضان الكريم، فنحنُ اليوم زرعُ آبائنا والأجداد، فحذار أن نُفسِد ما زرعوا، فقد كانوا نِعمَ الحضَارَةِ.. حضارة القِيَم والأصول والثبات على الولاية، فلم يكسرهم ظالمٌ ولم يُزعزع عقيدتهم جائِر؛ وعلَّة ذلك وقوفهم الواعي على مداخل التقية ومخارجها، وعلى أُسس الصبر واستيعاب البلايا، حتَّى كانوا في الأرض قد وتدوا أقدامهم، ورموا بأبصارهم أقصى القوم، ففهموا واقعهم واستشرفوا غدهم.. ومن أعماق حكمتهم نحن اليوم هنا نتنفس الولاية عقيدة قد رُبطت عليها قلوبنا.. فالله الله في الأجداد وما تركوا.. وما كانوا ليتركوا لنا شيئًا لو لا عنايتهم بالثقلين المُقدَّسين معاشًا وعَمَلًا.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
15 رجب 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………….
[1] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 80 – ص 195
[2] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 195
[3] – الآية 23 من سورة هود
[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 390
[6] – حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391
[7] – عود من عقاقير البحر يتداوى به وفى القاموس: عود هندي وعربي مدر نافع لكبد جدا والمغص. والمر: صمغ شجرة تكون ببلاد المغرب. واللبان بالضم: الكندر.
[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 503
[9] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 2 – ص 477
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 299