{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(٣٥ الأحزاب )
إنَّ القرآن الكريم، كما هو منطوق هذه الآية وآيات أخر كثيرة، يعرض عناوين متعددة تعبر عن حيثيات في شخصية المؤمن، ويعلّق عليها الجزاء والثواب ويثني عليها ثناءً جميلاً، فمن ذلك قوله تعالى:
1- فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤ الحج )
2-إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢ البقرة )
3- وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥ البقرة ) وغيرها كثير.
ولو سألنا أنفسنا: مَنْ حاز كل هذه الصفات واشتمل على جميع هذه الحيثيات غير المعصوم ومَن أولاه الله عنايته وتوفيقه؟
أمّا من هو دون ذلك فيتفاوت توفّره عليها قلّةً وكثرةً وشدّة وضعفًا، فقد ترى من المؤمنين الصابر الشاكر بقدر وترى أخاه يفوقه في صلابة الصبر ودوام الشكر، إنّ امتلاك هذه الحيثيات رَهْن الكثير من المعطيات والظروف والمقومات، قد تتوفر للبعض منها ما لا يتوفر للبعض الآخر.
إذا التفتنا إلى هذه الحقيقة فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى بعضنا البعض من خلال ما نملك من صفات، بل من خلال ما يملك هو من تلك الصفات والحيثيات، أمَّا ما يفقده هو وأجده أنا في نفسي، فليس من الصحيح أن أقايسه فيه بنفسي، فألومه وأعنّفه وأخطّأه، بل ربما يتجاوز البعض إلى أبعد من ذلك، لأنَّه لم ينظر للناس إلَّا من خلال ما اشتملت عليه نفسه من صفات وزاولت من أعمال وولعت به من طرق وأساليب، بل وتمسّك به من أفكار.
إذا كنت مثلا من المواظبين على أداء كل النوافل، فلا تُعب ولا تنتقص من اقتصر على الفرائض فقط، فلعله أكثر نفقة وأنفع للناس من صاحب الصلوات الكثيرة، والعكس وارد أيضاً؛ فمن يوفق للإنفاق وخدمة الناس ليس له أن ينتقص ذلك الذي أكثرُ ميلِه إلى الصلاة والصيام، فلنضع في الحسبان اختلاف الشخصيات في البواعث والميول والمقومات، وما أجمل ما روي عن الصادق (عليه السلام)، فعن يحيى بن أبان، عن شهاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
“لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحدًا.
فقلت: أصلحك الله فكيف ذاك؟
فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعه وأربعين جزءًا. ثُمَّ جعل الاجزاء أعشارًا، فجعل الجزء عشرة أعشار، ثُمَّ قَسَّمه بين الخلق فجعل في رجلٍ عُشْرَ جُزءٍ وفي آخر عُشْرَي جزءٍ، حتَّى بلغ به جُزءًا تامًّا، وفي آخر جُزءًا وعشر جزءٍ، وآخر جزءًا وعُشْرَي جزءٍ، وآخر جزءًا وثلاثة أعشار جزءٍ، حتَّى بلغ به جُزئين تامَّين، ثُمَّ بحساب ذلك حتَّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءًا. فمن لم يجعل فيه إلَّا عُشر جزءٍ لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار، وكذلك من تَمَّ له جزءٌ لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزئين، ولو علم الناسُ أنَّ الله عزَّ وجلَّ خَلَقَ هذا الخلق على هذا لم يلم أحدٌ أحدًا”. (1) ففيها كما ترى إشارة إلى أن الله خلق الناس مختلفين في قابلياتهم وقدراتهم.
نعم، التوجيه والتواصي بين المؤمنين مطلوب، ولكن مع مراعاة الفوارق البينية في كل شخصية.
وقد أشارت روايات أهل البيت (عليهم السلام) إلى مثل هذا المعنى بل أعمق منه، أذكر على سبيل المثال هاتين الروايتين:
1- عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادمًا لأبي عبد الله (عليه السلام)، قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه قال: فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين قال: وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا، فجئتُ وأنا بحال، فرميتُ بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) قد أقبل. قال:
فقال قد أتيناك، أو قال: جئناك، فاستويتُ جالسًا، وجلس على صدر فراشي، فسألني عمَّا بعثني له فأخبرته. فحمد الله ثُمَّ جرى ذكرُ قومٍ فقلتُ: جعلت فداك، إنَّا نبرأ منهم؛ إنَّهم لا يقولون ما نقول.
قال: فقال: يَتَولونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟
قال: قلت: نعم.
قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟
قال: قلت: لا – جعلت فداك -.
قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا؟
قال: قلت: لا والله، جعلت فداك. ما نفعل؟
قال: فتولوهم ولا تبرؤوا منهم؛ إنَّ من المسلمين من له سهمٌ، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يُحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة. وسأضرب لك مثلًا: إنَّ رجلًا كان له جارٌ وكان نصرانيًا، فدعاه إلى الاسلام وزينه له، فأجابه، فأتاه سحيرًا فقرع عليه الباب فقال له: من هذا؟
قال: أنا فلان.
قال: وما حاجتك؟
فقال: توضأ والبس ثوبيك ومر بنا إلى الصلاة.
قال: فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه.
قال: فصليا ما شاء الله ثُمَّ صليا الفجر، ثُمَّ مكثا حتَّى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيًا يريد منزله، فقال له الرجل:
أين تذهب؟ النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل؟
قال: فجلس معه إلى أن صلَّى الظهر، ثم قال: وما بين الظهر والعصر قليل فاحتبسه حتَّى صلَّى العصر، قال: ثُمَّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنَّ هذا آخر النهار وأقل من أوله فاحتبسه حتَّى صلَّى المغرب. ثُمَّ أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنَّما بقيت صلاة واحدة قال: فمكث حتَّى صلَّى العشاء الآخرة ثُمَّ تفرَّقَا، فلمَّا كان سحيرًا غَدَا عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا؟
قال: أنا فلان.
قال: وما حاجتك؟
قال: توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصل.
قال: اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني، وأنا إنسان مسكين وعلي عيال.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أدخله في شيءٍ أخرجه منه – أو قال: أدخله من مثل ذه وأخرجه من مثل هذا -.(2)
2- عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد العزيز إنَّ الايمان عشر درجات، بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحبُ الاثنين لصاحب الواحد لستَ علي شيءٍ. حتَّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمنا فعليه جبره.(3)
وقد ذكرت الرواية الأخيرة قاعدتان في غاية الأهمية، هما:
1- {لا تسقط من دونك فيسقطك من هو فوقك}.
2- {إنَّ من كسر مؤمنا فعليه جبرُه}.
فينبغي أن نضع نصب أعيننا هاتين القاعدتين ونراعيهما ونأخذ بتوجيهاتهما، وقد يتسنّى لنا الانتهاء ممَّا تقدّم إلى ما يلي:
١/ ضرورة الاهتمام بالتكامل فيما بين المؤمنين، وهو على أنحاء، منها:
– وضع كل واحد في موضعه بحسب ما عنده من ملكات وفضائل، وبذلك تكتمل الصورة الكلية.
– التعلم من بعضنا البعض، بحيث تُسدُّ النقائص وتزكو الكمالات.
٢/ الانتباه جيِّدًا لما يصدر عنَّا من كلام وأفعال وتقريرات، فقد نكسرُ بكلمةٍ أو نظرةٍ مؤمنًا، فنتحمَّل حينها مسؤولية جبره، وفي كثير من الأحيان تأخذ الإنسانَ العزَّةُ بالإثم فيستكبر على جبر ما كسره في غيره، وهذا أهم من المقايسات الخاطئة
نسأل الله التوفيق والسداد والاستقامة على الصراط.
صالح جعفر آل جواد الجمري
25 محرم الحرام 1440