من الطبيعي أن يُرَدَّ على الجاهل لكي لا تصل تلك الأفكار للمجتمع فيفسد، والعالم مسؤول وفق ما أمره الله لتطبيق دوره في تحصين المجتمع ممن تجلبب بقناع العلم ليزيف الحقائق، وكما جاء في الحديث (إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عَلِمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ)
ولكن المحزن أنَّ المجتمع قد أفرز شرائح مجتمعية ظاهرها حمل راية العلم وباطنها السم الزعاف، لذلك كان ولابد من محاربة تلك التيارات الزائفة، لتثبيت العقائد الحقه في عقول المجتمعات، وخير مثال لحمل تلك الرأية العظيمة، هم الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم)، وقد أفرد العلامة الخبير أبو منصور أحمد بن علي ابن أبي طالب الطّبرسي من علماء القرن السادس، كتابًا أسماه (الاحتجاج) جمع فيه احتجاجات الرسول (صَلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين، ودورهم في محاربة الأفكار الفاسدة على مر التاريخ، ومن جملة تلك الاحتجاجات، احتجاجات مولانا الإمام الباقر (عليه السلام)، ذلك الإمام الذي شهد بعلمه وفضله الأعداء قبل المحبين، وهو الذي شيد صرح العلم وبقر العلم بقرًا، وقد تنوعت احتجاجات الإمام الباقر (عليه السلام) حسب المقتضيات، وحسب الفكر السائد وحسب الأجواء العلمية في ذلك الزمان، فمنها العقائدية والتاريخية، نذكر طرفًا منها:
(سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر (عليه السلام)، قال: أخبرني عن الله عز وجل متى كان؟
فقال: متى لم يكن حَتَّى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال فردًا صمدًا لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا)
وفي جانب أخر كان الإمام الباقر (عليه السلام) يحتج على أشباه العلماء والمدعين الفقاهة بين الناس، فعن أبي حمزة الثمالي قال (أتى الحسن البصري أبا جعفر (عليه السلام) فقال:
جئتك لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ألست فَقِيه أهل البصرة؟ قال : قد يُقال ذلك.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟ قال: لا.
قال: فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟ قال: نعم.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): سبحان الله؛ لقد تقلّدت عظيمًا من الأمر…
والرواية طويلة أخذنا منها موضع الشاهد في محاربة مدعي العلم، والمتصدي لما هو فوق مستواه.
وفي الجانب التاريخي كان للإمام الباقر الدور الكبير في دفع الشبهات وتثبيت الحق، ومنها ما جاء في كتاب المناقب: (كان عبد الله بن نافع بن الأزرق يقول: لو عرفت أنَّ بين قطريها أحدًا تبلغني إليه الإبل يخصمني بأنَّ عليًا قتل أهل النهروان وهو غير ظالم لرحلتها إليه.
قيل له: ائت ولده محمد الباقر، فأتاه فسأله فقال (عليه السلام) بعد كلام: الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته، واختصنا بولايته. يا معشر أولاد المهاجرين والأنصار من كان عنده منقبة في أمير المؤمنين (عليه السلام) فليقم فليحدث، فقاموا ونشروا من مناقبه، فلما انتهوا إلى قوله (لأعطين الراية) سأله أبو جعفر (عليه السلام) عن صحته؟
فقال: هو الحق لا شك فيه، ولكنَّ عليًا أحدث الكفر بعد.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن الله أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه، وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لا يعلم؟ إن قلت لا. كفرت.
فقال: قد علم.
قال: فأحبه على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟
قال: على أن يعمل بطاعته.
فقال أو جعفر (عليه السلام): قم مخصومًا.
فقام وهو يقول {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} الله يعلم حيث جعل رسالاته).
هذه بعض وليست كل احتجاجات الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فهي أمثلة على انتصار منطق العلم على منطق الإنحراف.