انتهينا في المقال السابق إلى خطأ التعامل مع الجزئية التاريخية بمعزل عن سياقها الموضوعي العام، واستقر الرأيُ على الرئيس العراقي السابق صدَّام حسين مثالًا.
هنالك نقلٌ مُتَكَثِّر عن مواقف جيِّدة لصَدَّام مع شرائح معينة من المجتمع العراقي، وأخرى جيِّدة أيضًا حيال القضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين..
على الجانب الآخر نرى أنَّه قد استثنى الشيعة من تعاملاته الجيِّدة، بل ضيَّق عليهم وجعلهم تحت عين الرقابة دائمًا، وليس خافيًا حجم الإجرام والوحشية التي كان يمارسها رجالُه في السجون ضد المعتقلين، كما وأنَّ مجرَّد احتمال التحرُّك ضده، من أيِّ أحدٍ، كفيلٌ بأن يحكم بتصفيته حتَّى لو كان أحد أولاده!
يشعر المتتبع لسيرة حزب البعث العربي الاشتراكي عمومًا، وصدَّام حسين على وجه الخصوص بحالةٍ من التشتت بين نقل مؤيديه وبين نقل معاديه، بل وحتَّى بين نفس ما ينقله المحايدون.
كيف نفهم هذه التردُّدات بين الرأفة والغلظة، واللطف والوحشية؟
ما توصلتُ إليه هو أنَّ هذا الرجل يتحرَّك من خلال فلسفة تقوم على عدم تجاوز واقع الطبع البشري الذي يراه مستعِدًّا على الدوام للغرور والتمرد والتفرعن، وبالتالي، فإنَّ الحاكم لا يتمكن من الحكم إلَّا بإحكام قبضته الأمنية بحيث يخلق في الشعب حالة متقدمة جدًّا من الخوف والرعب من الخروج على الدولة؛ إذ أنَّ إرخاء الطرف له يُحرِّكُ استعدادته الداخلية للتمرُّد.
من الأدوات التي كان يستعملها حزبُ البعث تعدية العقاب على الجرم الفردي ليستوعب أهل مرتكبه وعشيرته وجيرانه، وبذلك يخلق رفضًا داخليًا من نفس الشعب المظلوم لأدنى حركة ضدَّ النظام.
يرى صدَّامُ وحِزبُه انحصارَ التفكير الصحيح والحكيم في النخبة الحاكمة، ولا تثبتُ -في نظرهم- النخبويةُ لنخبةٍ ما لم تتمكَّن من (الثورة) على الفساد الفكري واستلام قيادة البلد، وعلى الشعب حينها التنفيذ، وإلَّا فهو ضد مصلحته حتمًا؛ فهم يذهبون إلى قصور الشعوب وعجزها عن التفكير الصحيح، ولذلك كان شأنها الاتِّباع دون تردُّد، وبالتالي فمن يخالف رؤية القيادة يُشكِّل خطرًا على المجتمع، فتقضي الحكمة بضرورة تصفيته عاجلًا!
في هذا الصدد سمعتُ تسجيلًا لوزير الدفاع العراقي الأسبق عدنان خير الله طلفاح[1] يتحدَّث فيه عن استعمال النظام الحاكم للسلاح الكيماوي ضد الأكراد[2]، قال فيه[3]: “وماذا لو قُتِل من الأكراد خمسة آلاف أو عشرة آلاف أو عشرين ألف، في سبيل المحافظة على مليوني كردي من الأخيار؟”.
يعتقد البعثيون بأنَّ صدَّام حسين كان يتعامل بواقعية تامَّة، ولذلك قال، ويقولون: أنَّ العِراق لا يُحكم إلَّا بالحديد والنار!
إذا فهِمنا هذه العقلية، نفهم حالة الاطمئنان التي ظهر عليها صدَّام حسين وقت تنفيذ حكم الإعدام فيه، فالأمر لا يتعلق لا بإيمان ولا بتقوى، ولكنَّها فلسفة حياة آمن بها ومن معه عميقًا، وهو نفس الأمر نراه في حالات أخرى مثل الأرجنتيني الكوبي جيفارا، وحاليًا حاكم كوريا الشمالية كم جون أون.
نعم، لا يمكن لإنسان أن يمارس هذا النوع من الإجرام والتوحش ما لم يكن مستعِدًّا من الناحية النفسية لسلوكه، أو أن يتعرَّض لبرمجة ذهنية ثقافية مركَّزة.
يقال: ماذا تقول في صدَّام بعد هذا السرد التحليلي؟
أُجِيب: لستُ في وارد الحكم على صدَّام أو غير صدَّام، فما أريد بيانه هنا هو ضرورة قراءة الحدث في سياقه العام للتمكن من تفسير وفهم القضية موضوعًا ومحمولًا.
أمَّا صدَّام، فهو مجرم، ولا يمكن أن يُقال عنه غير ذلك، لا بالاقتطاع، بل من خلال نفس السيرة العامَّة وما يظهر فيها من مبتنيات فكرية.
إذا فهمنا هذا المثال، نطرح الأسئلة التالية:
هل عرَّض الإمامُ الحسين (عليه السلام) طفله الرضيع لخطر القتل؟ وهل طلب له الماء من الأعداء؟ وإن كان الجواب بنعم، فهل يُعدُّ ذلك استجداءً؟
هل عقد الإمامُ الحسين (عليه السلام) عقد نكاح بين القاسم بن الحسن وابنة له؟ وإن كان الجواب بنعم، فهل ينسجم ذلك مع شأن كربلاء وما وقع فيها؟
هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) “ثوريًا” حين قال: “مثلي لا يبايع مثله”؟ أو أنَّه (عليه السلام) “سلميًا” حين طلب من القول أن يفسحوا له مجالًا للعودة؟
كيف نفهم ما يُقال حول أعداد القتلى من المعسكر الأموي؟ هل يُعقل أن يكون الأكبر (عليه السلام) قد قتل مئات، وأنَّ القاسم قد قتل عشرات؟ هل يصحُّ ذلك والحال أنَّ الحُسين (عليه السلام) لم يعمل في كربلاء لا بالمعجزة ولا بالولاية التكوينية؟
نحاول في المقال القادم إن شاء الله تعالى الإجابة على هذه الأسئلة من خلال فهم الحدث في سياقه العام، ونسأل الله تعالى التوفيق للاستفادة من آراء القرَّاء الكرام.
السيد محمَّد علي العلوي
14 من المحرَّم 1439 هجرية