ذات مرَّة، في بعض ظروف الضيق الشديد، تمنَّى أحدُ الإخوة طَبَقَ (مچبوس)، وكانت حينها من الأمنيات المستحيلة، فقال له آخر: بعد قليل يأتون بوجبة الغداء، وأيُّ شيءٍ كانت، ما عليك أكثر من أن تعتبرها (مچبوس)، وهكذا كلَّما تمنيت شيئًا فاجعل الاعتبار طريقًا إليه!
أذكُرُ أنَّهما وآخر تناقشوا بجدٍّ حول علاقة الأذهان بالمُدرَكات، ودور الاعتبارات في (صياغة الحقائق).
لم أعر حينها نقاشهم اهتمامًا..
وجدتُ مُؤخرًا أنَّ لنظرية الاعتبار مساحة ثقافية واسعة في دوائر اجتماعية مختلفة، منها دوائر علمية، غير أنَّ الذي أودُّ مناقشته في هذه السطور هو انتشار عقلية البناءات الاعتبارية في الثقافة المجتمعية العامَّة، فهناك من يعتبر حتَّى الزواج علاقة اعتبارية، وبتغير الاعتبار تتغير، فاليوم زوجان، وغدًا بعد الطلاق يرتبطان من خلال اعتبار آخر.. زمالة.. صداقة.. أخوَّة..
دعوني أضرِب مثلًا، ومن بعده أُبين أمرًا..
قد يعمل شخصٌ بجدٍّ واجتهادٍ في نزح ماء البحر!
لا يتوقف عن ملء دلوٍ تلو دلو، وبالرغم من عمله الدؤوب والصادق جدًّا، إلَّا أنَّه لن يُنجِز شيئًا؛ إذ أنَّ البحر باق لن يؤثر فيه عمل هذا العامل.
صاحب العقلية الاعتبارية يعمل أيضًا، ويتحمَّل المسؤوليات، ويعرق ويتعب..
ولكنَّه لن يُنجز أكثر من تعب عظيم، وبعض الحصرم (يعتبره) عِنَبًا..
لكي ينطلق الإنسانُ وغايته انجازات حقيقية صحيحة، فهو في حاجة على نحو الضرورة العلِّية إلى مُحكمات يقوم عليها بنيانه، وليست المحكمات من إبداعات الإنسان، بل هي حقائق واقعية قانونية تكوينية، مثلها مثل الجاذبية، ومثل الفوق والتحت واليمين والشمال، ومثل احمرار البشرة من أثر الضربة، وهكذا، ولكنَّ الإنسان عندما عجز عن تفسير ما تُدرِكُه مادياته الخمس، وعندما أراد العلو بشهواته وأهوائه، ابتدع معان جديد للاعتبارات الذهنية سحق بها الثوابت وميَّع إنسانية الفِكر!
فلنلاحظ هذه البيانات المهمَّة:
يقول الله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ).
ورُوي أنَّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) سَهَرَ في الليلة التي ضُرِب في فجرها، “فأكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول: واللهِ ما كذبت، وإنَّها الليلة التي وُعِدتُّ بِها. ثُمَّ يُعَاوِدُ مَضْجَعَهُ، فَلمَّا طَلَعَ الفَجْرُ أتاه ابنُ النَبَّاحِ ونادى: الصلاة. فقام (عليه السلام) فاستقبلته الإوزُّ فَصِحْنَ في وجْهِهِ، فقال: دَعُوهنَّ؛ فإنَّهُنَّ صوائِحُ تَتْبَعُهَا نَوائِحُ، وتَعَلَّقَتْ حديدةٌ على البابِ في مِئْزَرِهِ، فَشَدَّ إزَارَهُ وهو يقول:
أُشْدُدْ حَيَازِيمَكَ للموتِ … فإنَّ الموتَ لاقِيكَ
ولا تجزع من الموتِ … إذا حَلَّ بِوادِيكَ
فقد أعرف أقوامًا … وإن كانوا صعاليكَ
مَسَاريعٌ إلى الخيرِ … وللشَرِّ مُنَاديِكَ”
لم يقف الشعور بالمصيبة عند الإوزِّ فحسب، بل تجاوزها إلى حديدةٍ كانت على الباب، تعلَّقت بإزار أمير المؤمنين (عليه السلام) وكأنَّها تريدُ ثَنْيَهُ عن الخروج للمسجد!
ولا تفوتُ النظرَ تلك التربةُ التي تركها رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) عند أمِّ سلمة (رضوان الله تعالى عليه) تحمرُّ دمًا إشارةً على أنَّ المصاب قد وقع!
وقال ابنُ عبَّاس: “لمَّا قُتِلَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رأينا السماءَ تمطُرُ دَمًا عَبيطًا، وما رُفِعَ حَجَرٌ مِنَ الأرضِ مُنذُ ثَلاثة أيَّامٍ إلَّا وَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهِ دَمٌ عَبيطٌ”.
هذا، وناهيك عن الجبَل جعله التجلِّي الإلهي دكًّا، وخرَّ موسى صعِقًا، كما في الآية 143 من سورة الأعراف.
تشير الكثير من النصوص الشريفة إلى حالة إدراكية خاصَّة تتمتَّع بها الموجودات على إطلاقها، كل موجود بحسبه من حيث الاختيار في عوالم سابقة، وبقوة الإدراك في هذه النشأة، وعلى سبيل المثال، وردت أحاديث في خبثِ الوزغ وعدائه لأهل البيت (عليهم السلام) حتَّى قال أبو عبد الله (عليه السلام) طائِفة من طوائف أعداء العترة الطاهرة، لا يموت منهم أحد إلَّا ومسخه اللهُ تعالى وزغًا، وفي قبال هذا المخلوق الجاحد، قال أبو عبد الله (عليه السلام): “اتَّخِذُوا الحمامَ الراعِبيَّة في بيوتِكم؛ فإنَّها تَلْعَنُ قَتَلَةَ الحُسَينِ بنِ عليٍّ (عليهما السلام). ولعن اللهُ قَاتِلَه”.
هل تلاحظون عمق العلاقات بين المخلوقات؟ هل هي اعتبارات؟
لم يعتبر الطيرُ عليًّا (عليه السلام) إمامًا، ولكنَّ الإمامة حقيقة وجودية يعيها الطير جيِّدًا لأنَّه سلِم من الاجتهادات الثقافية الخاصَّة.
هكذا هي سائر العلاقات والعناوين العارضة على مجتمع الوجود مطلقًا، ومن الخطأ الفضيع أن يتسلط الإنسانُ على الحقائق ويجعلها اعتبارات ليتحكم في حملها على ما يشاء!
ما هي علاقة الصداقة؟ أو الزواج؟ أو العداء؟
الأصل في العلاقة بين الأشياء التجانس، وأمَّا التنافر فهو عدم العلاقة، ولا يكون إلَّا من بعض الجهات، ولا يمكن ان يكون من جميع الجهات وإلَّا لفسد الوجود. فلنفهم متأملين جيِّدًا.
عندما تتكون علاقة صداقة بين اثنين، فهذه العلاقة حقيقة لا تُدركها الحواس المادية الخمس، ولذلك يتألم الإنسان السوي عند فقده لصديقه، وهذا الألم من نفس طبيعة الألم عند إصابة جارحة من الجوارح، وهذا ما نحتاجه للوعي به جيِّدًا.
نعم، من الممكن جدًّا أن يتحول صديقان إلى عدوين، وهذا لن يخلو من ألم حتَّى لو كان مُبَرَّرًا بنحو من الأنحاء، وهو إن كان كذلك فعلاقة حقيقية أخرى سوف تبرز، وهي العداء.
لا يعبث العاقل بعلاقاته الوجودية، بل يعمل على ترويض وحشيته للاستقواء بها، ومن هنا أفهم الحِكمة من مبالغة السماء في الوصية بالتواصل والتزاور.
أمَّا الاعتبارات، فهي من سياسات التحرُّر والتبرير للتراجعات دون أدنى عناية أو اعتبار بالآخر.. فالأصل هو: أنا، ومن بعدي فليكن الطوفان.. لا يهم!
همسةٌ وفي الحلق حشرجة:
يقول أحدُ البلهاء من أكابر مُفَكِري التِيه:
ليس لشروق الشمس ولا لغروبها، ولا لكلِّ هذه الحركة غير وجود واحد فقط، هو وجودي الذهني، وأمَّا في الحقيقة والواقع، فهي ليست شيء. كلُّ ما نراه ليس إلَّا تصوراتنا الخاصة واعتباراتنا التي تنتجها ثقافاتنا، ولو سيطرت فكرة اللا نهار، لما رأينا نهارًا.
السيد محمَّد علي العلوي
10 من ذي الحجَّة 1438 هجرية