لازلتُ مطمئنًا للقول بذاتية الرابطة بين الدال والمدلول، وإن دلَّ غير الذاتي فإنَّ مُشكِلًا ثقافيًا يعرض، ولا يُتخلَّص منه إلَّا بالتأصيل والرجوع إلى الاستعمالات الصحيحة في مقامات البيانات الدلالية.
أُوَضِّحُ الفِكرةَ بنقدِ التقسيم المُقرَّر في مباحث الألفاظ باعتبار المعنى الموضوع له اللفظ أو المستعمل فيه، فهم يقولون هناك أنَّ اللفظ إمَّا مختَّص أو مشترك أو منقول أو مرتجل أو حقيقة أو مجاز، وهذا التقسيم مبني على أنَّ منشأ العلاقة بين المعنى واللفظ الدال عليه هو الوضع، وكما أنَّ لفظ (الأسد) وِضِع للحيوان المفترس الزائر، فإنَّ الواضع يَتَمَكُّنُ من نقله لمعنى آخر أو استعماله (اشتراكًا) أو ارتجاله أو التجوز به.
وما أقوله هو أنَّ ما يُقال عنه (وضع) أراه في كلِّ الأقسام بحسب القيود، فالأسد حقيقة في الحيوان المفترس الزائر وحقيقة في الرجل بقيد الإقدام، والصلاة حقيقة في الدعاء، وحقيقة في الدعاء المخصوص المتكون من تكبيرة الإحرام والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليم.
هذا ما أذهب إليه مجملًا، وإلَّا فهناك تفصيلات مهمَّة وردود على ما قد يرد من إشكالات.
تستَقِرُّ الذائقة الفِكرية عند استيعابها للفظ قد استُعمِلَ في معناه الصحيح، ولكنَّها تضطرب عندما تتعرض للإجبار على قبول لفظ في غير معناه، وإن تكرَّر الإجبار فإنَّها تتشوه وتصاب بعاهات قد تكون مزمنة!
لاحظوا عندما يُقال عن العادل عادلًا، فإنَّ ذلك محلَّ قبولٍ بهدوء حتَّى من أعداء هذا العادل، ولكنَّ القول بأنَّه ظالم سببٌ لاضطراب الفكر عندهم، ومع الإصرار فإنَّهم يتعرَّضون لتشوهات ثقافية تجرُّ الكثير من المشاكل المُعَقَّدة.
للكلمة أهمية بالغة، ولا يصحُّ التهاونُ في استعمال الألفاظ في غير معانيها الصحيحة وإن أدَّى الاستعمال لحضور المعنى المطلوب في ذهن المُخاطب، فإنَّ تشوهات ثقافية تتبع هذه الحالة، وللأسف، قد راجت اليوم الاستعمالات الاختراعية الخاطئة، ممَّا أحدث مشاكل ثقافية وفكرية يصعب حلُّها؛ والوجه في ذلك عدم الشعور المجتمعي بوجود مشكلة أصلًا! وهنا الكارثة.
ترفَعُ بعضُ التشكلات الاجتماعية والسياسية، وبعض الأفراد أيضًا، شعار (التَمَرُّد)..
المرأة المُتَمَرِّدَة.. تَمَرُّد العُمَّال.. يوم التمَرُّد.. أتَمَرَّدُ ولن أنثني!
أذكر في بعض السنوات المُتصرِّمة أنَّني كتبت مقالًا سجلتُ فيه اعتراضي على شعار (التمرُّد) الذي رُفِعَ في ظروف معينة، وأكرِّرُ اعتراضي على نفس الشعار بعد ملاحظتي لتكراره هنا وهناك..
دقِّقوا معي..
العاقل لا (يتمرَّد)؛ حيث إنَّ التَمَرُّدَ صِفَةٌ للداني الشيطاني إذا عاند العالي الربَّاني، ولا يُقال لمطلق المُعانِد (مُتَمَرِّد).
يقول ابنُ منظور في لسان العرب: “ المارِدُ: العاتي. مَرُدَ على الأَمرِ، بالضم، يَمْرُدُ مُروُدًا ومَرادةً، فهو ماردٌ ومَريدٌ، وتَمَرَّدَ: أَقْبَلَ وعَتا؛ وتأْويلُ المُروُد أَن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه ذلك الصِّنْف.
والمِرِّيدُ: الشديدُ المَرادةِ مثل الخِمِّير والسِّكِّير.
وفي حديث العِرْباض: وكان صاحبُ خيبر رجُلًا مارِدًا مُنْكرًا؛ الماردُ من الرجال: العاتي الشديد، وأَصله من مَرَدة الجنِّ والشياطين؛ ومنه حديث رمضان: وتُصَفَّدُ فيه مَرَدة الشياطين، جمع مارد.”
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الصافَّات: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ).
ما هو الواقع الذي تريد وصفه؟
هل تريدُ القول بمخالفة النفس للهوى؟
فقل: يا نفسي استقوي على هواي.. أيا نفس خالفي الأهواء.
ولكنَّ قولك: أيا نفس (تمرَّدي)، فهذا يعني دناءتها وعلو الجهة التي تتمرَّد عليها!
دعوني أُقرِّبُ المسألة بطرحٍ منشأي..
ما هي الغاية من التلفظ؟
هنا ثلاثة شروط:
- يرجع الأمر إلى أنَّ المُتحدِّث يُريدُ إحضار نفس الشي بين يدي المُخاطب، ولتعذُّرِ ذلك، فإنَّه يلجأ إلى الانتقال بالمُخاطب إلى المعنى المطلوب من خلال ما يدل عليه، ولن يحصل الانتقال إلَّا إذا كان المُستَعمَلُ ناقِلًا فعلًا للمدلول، وهو الشرط الأوَّل.
- بالإضافة إلى اشتراط كون المُستَعمَل ناقِلًا، فمن الشروط الرئيسية أن يكون المُنتَقِل قابِلًا للانتقال عبر هذا المُستَعمَل.
- والشرط الثالث أن يكون المدلول قابلًا إلى أن يكون محلًّا لصِدقِ الدال.
ينبغي التنبه هنا إلى عجز المخلوق تكوينًا عن خلق أو جعل أو حتَّى اعتبار ظرفٍ قانوني، أي ما يحمل القانون، وغاية قدرة الإنسان اكتشاف القانون، ومنظومة وتراتبية أطراف الدلالة من الظروف التكوينية القاهرة، ومن هنا تنشأ مشكلة الاستعمالات الخائطة للدوال، وكأنَّ الأمر حينها كمن يُركِّب غصبًا عجلات شاحنة على دراجة هوائية، أو عجلات دراجة هوائية على طائرة، فالأمر قد يتم، ولكنَّه لن يستقيم!
الحذرُ ثُمَّ الحذر من الاستعجال في الاستعمالات الدلالية، لفظية وغير لفظية، والحذر ثُمَّ الحذر ثُمَّ الحذر من الجُزافية في هذا الأمر الخطير.
السيد محمَّد علي العلوي
1 من ذي الحجَّة 1438 هجرية