تُقاسُ حِدَّةُ الذهن من جهةٍ بمدى السرعة والدقة في انتقاله من الدال إلى مدلوله مهمَّا كان بعيدًا وذا عمق، ومن جهة أخرى بمدى إحاطته بتركب الدوال، فطرقة البابِ -مثلًا- تدل بالمباشرة على وجود طارق، وفي تركيبها تدل على أنَّ الباب قابِلٌ لإصدار الصوت عند الضرب عليه، وأنَّ الطرق قد يكون من عاقل قاصد وقد يكون بسبب عارضٍ آخر، وإذا كان من عاقل قاصد فهو يَحْتَمِلُ وجودَ عاقلٍ مثله في الدار… وهكذا فإنَّ الطرقة تُرَكبُ مجموعة من الدوال، وكلُّ دالٍّ يُرَكب مجموعة أخرى، وهكذا تتضاعف مركبات الدوال والمدلولات مظهرةً لمعارف جديدة تتسع بها وفيها آفاق الإدراك.
من المُهمِّ هنا الانتباه إلى أنَّ المعرفة تدقُّ وتتميَّزُ كُلَّمَا اشْتَدَّ التَطَابقُ بَينَ الدَالِّ والمَدْلُولِ، ولذلك نجدهم في الاستعمالات المجازية يشترطون المناسبة والقرينة في صحة المجازية؛ لسدِّ النقص الذي تُحدِثه مغادرة المتكلم للمعنى الحقيقي للفظ، ومن أمثلة ذلك إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع المقدام، ولو لا شجاعة الرجل وإقدامه لافترق الدال عن المدلول افتراق تباين، وبهما تكون المضمرات في وصفه بالأسد كالتالي: هذا الرجل في شجاعته وإقدامه يُشبِه الأسد.
يعتمد الإنسان في تفكيره على مبدأ (الدلالة)؛ فهو اللغة التكوينية الثابتة، ولولاها لامتنعت عليه المعارِفُ مُطلقًا، ولكنَّ اعتماده على مبدأ (الدلالة) لا يُنتِجُ تحركًا فكريًا صحيحًا ما لم تكن انتقالاتُه من الدوالِّ إلى مدلولاتها الصحيحة، وهذا غير مضمون ما لم يقف الذهنُ ما استطاع على الخريطة الحقيقية للمُدركَات وما بينها من علاقات دلالية تكوينية.
فلندقق قليلًا..
سمعَ أعرابيّ جَلِفٌ[1] قولَه تعالى (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)، فصاح قائلًا: يا سبحانَ اللهِ، مَنِ الذي أغْضَبَ الجَليلَ حَتَّى حَلَفَ؟
ألَمْ يُصَدِّقُوهُ حَتَّى ألجَئُوهُ إلى اليمين؟ قَالهَا ثَلاثًا، وخَرَجَتْ فِيهَا رُوحُهُ[2].
نلاحِظُ سرعةَ انتقال الأعرابي من الدال، وهو الآية الكريمة، إلى عمقٍ دلالي مهمٍّ استوعبه بدقَّةٍ فائقة، وتفاعل معه تفاعلًا حقيقيًا أثَّرَ على وجوده في هذه الدنيا. هي معرفةٌ حقيقيةٌ ساعد عليها صفاءُ الذهنِ وانفتاحُهُ على خريطة الدلالات بشكل عزَّ وجودُه اليوم!
في كثير من الأحاديث المعصومة عن أهل البيت (عليهم السلام) نرى سكوتَ المستمعين أو السائلين بالرغم من عمق التصريح -كما هو في فهمنا اليوم-، ومن أمثلة ذلك ما عن يحيى بن سعيد القطان، قال:
“سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله عَزَّ وجَلَّ: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ)، قال: عليٌّ وفاطمةُ (عليهما السلام) بحرانِ مِنَ العِلمِ، عميقان، لا يبغي أحَدُهُمَا على صَاحِبِه. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، الحسنُ والحُسَينُ (عليهما السلام)”[3].
يُقالُ: هذا تأويلٌ، والله تعالى يقول: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، وسكوت السائل أو المستمع سكوت تسليمي لا أكثر.
أقول: يذهب كثيرون إلى أنَّ (التأويل) هو الذهاب باللفظ إلى معنى أجنبي لم يوضع له، أو: هو صرف اللفظ عن معناه الحقيقي، وقالوا: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ.
فيما قال آخرون: التأويل هو التفسير، وهو المراد من الكلام.
فلننتبه جيدًا..
إنَّنا لمَّا قلنا بأنَّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بوضعِ واضعٍ، لزم منَّا القول بمبدأ لكلِّ وضع، فلم يكن عندنا لفظ (الكرسي) -مثلًا- لمعناه، ووجد حين الوضع وكثرة الاستعمال، وبالتالي فإنَّ استعماله في معناه استعمال حقيقي، وفي غيره مع توفر الشروط مجازي، وقد يُنقل أو يُرتَجل في مناسبات خاصَّة، ولكنَّه في حالة أخرى قد يُطلق ويراد به وَلاية أهل البيت (عليهم السلام) -مثلًا-، ولا يمكن لأحدٍ فهم هذا المراد إلَّا العالم بالتأويل، أي العالم بالمرادات الحقيقية للمتكلم.
أرى أنَّ (التأويل) في الاصطلاح هو هو التأويل في اللغة، وهو من الأوْل، أي: الرجوع إلى حيث المبدأ، وبالتالي فإنَّ تأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته، فتكون الظهوراتُ فروعَ تلك الأصول، فهي ذات منشأ علمي تكويني متعال، والتأويل من المعصوم العالم به هو إبراز للظهور الحقيقي، أو ما يظهر في اللفظ للعالم بالحقائق، وهذا بحث عريض قد نوفق للبسط فيه قريبًا إن شاء الله تعالى.
ما أريد قوله هنا، أنَّ العربَ في الصدر الأوَّل كانوا على مقربة، ولو إجمالية، من المدلولات الحقيقية لمختلف أنواع الدوال، والسبب في ذلك قربهم من الطبيعة التي هي منشأ المعارف والعلوم، وهي -كما أرى- صراطها وسكَّتها التي ما إن يحيد الناظِرُ عنها إلَّا ووقع في مزالق التِيه والضلال حتَّى تبتلعه بقوة.
لم يكن العرب في تلك العصور أغبياء، بل كانوا في قمة الذكاء والعبقرية على مختلف الأصعدة والميادين، ولكنَّهم نقضوا غزلهم بعنادهم وتكبرهم على الحقِّ.
بلى، كانت تقديراتهم العملية ضالَّة خاطئة، ولو أنَّهم أزالوا التكبر والعناد من نفوسهم لبرزت نباهتهم وظهر ذكاؤهم في فهم الأمور واستيعابها، وحالهم في ذلك حال بني إسرائيل الذين (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).
رُوي أنَّ الوليد بن المُغيرة مَرَّ بالنبي (صلَّى اللهُ عليه وآله) وهو يقرأ (حم السجدة)، فأتى قومَه وقال:
“قد سَمِعتُ من مُحَمَّدٍ آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس والجن. إنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمُثمر، وإنَّ أسْفَلَه لمُغدق، وإنَّه ليَعلو ولا يُعلى. فقالت قريش: صبأ الوليدُ!”[4].
قدمتُ بهذه المقدَّمة لأقول بأنَّ ما نبحثه اليوم كلاميًا وفلسفيًا كان حاضرًا في أفهام الناس حينما كانت الأذهان صافية والعقول تستقي حياتها من الطبيعة وأدواتها، وأدلُّ ما يدلُّ على ذلك قيام الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بدعوته. فتأمل جيدًا.
إنَّ مسألة (الوَلاية) من المسائل التكوينية التي يتوقف عليها وجودُ الوجود المُمكن، فبحثها بحث ثبوتي محض، وتجاوزه إلى الطرح الإثباتي يكشف عن خلل معرفي عميق ممتنع حتمًا على طرح المعصوم قرآنًا كان أو إمامًا، ولذلك، فإنَّ الكلام عن الأئمة بشكل عام، وعن المهدي منهم (عليهم السلام) بشكل خاص، لا يستقيم إلَّا من بعد فهم المسألة في مقام الثبوت، ولذا، فإفادة كلام المعصوم (عليه السلام) عن ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) إفادة إثباتية لا تحتاج في تصديقها وفهمها إلى كثير جهد وتدقيق، وهو ما أبينه تاليًا -إن شاء الله تعالى-.
السيد محمَّد علي العلوي
11 شوَّال 1438 هجرية