يَبْحَثُ عُلمَاءُ أصولِ الفِقه تصحيحَ الجواز في مِلكِ الغيرِ لإنقاذِ نَفْسٍ مُهَدَّدةِ بالموتِ، ويبحثون تصحيح الصلاة عند تضيُّقِ وقتها في حال أدَّى ذلك لمخالفة الوجوب الفوري لإزالة النجاسة من المسجد.
إنَّهم يبحثون القواعِدَ الكليَّة لحلِّ مثل هذه التصادمات، ممَّا يكشف عن سَلامَةِ العَقليَّة الفقهية من ثقافة التصادم وبناءاتها السيئة، ولكنَّ هذا لم ينعَكِس بالشَكلِ المَطلوب فِي ثقافاتِ قِطَاعَاتٍ كَبيرَةٍ مِنَ النَاسِ، فتجدهم يُسَارِعون لافتعال ألوانٍ وأشكالٍ من المصادمات بما يُثِيرُ استغرَابَ العَقْلِ وحِكْمَتِه، تارةً عن جهلٍ سهلٍ لا يصعب التعامل معه، وأخرى عن جهلٍ مُعقَّدٍ غاية التعقيد بما يتجاوز حدود الجهل المُركَّب الذي يشرحه المناطقة في بعض مباحث المنطق!
يقولون:
أين التنظيرات السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وغيرها لعلماء المسلمين؟ إنَّها في سبات عميق؛ إذ الحياة عندهم لمسائل الحيض والنفاس والشكوك في الصلاة وأحكام المسافر، وما فيها من تفريعات وتعقيدات لا يحتاجها الناس!
تكشف هذه الرؤية -في نظري- عن اختلاط ثقافي بالعلمانية وما تدعو إليه بنحوٍ يحتاج لدقة في النظر، وبيانه في التالي:
يقول الله تعالى:
- (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
- (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكَبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
تشتمل هذه الآيات الكريمة ومثيلاتها فيما تشتمل، على بُعدين مُهمَّين، أوَّلهما البُعد التعبُّدي، والآخر البُعد الحِكمي.
أمَّا الأوَّل فَمِنْ أوجُهِهِ إحراز الإجزاء بالامتثال على الوجه الذي تُحرزُ به أعلى درجات فراغ الذِمَّة أمام الله تبارك ذكره، ولذلك يبذلُ الفَقيهُ غايَةَ الجُهد في التفريع وبيان الحكم تبعًا لكلِّ عنوانٍ جديدٍ مُتَفَرِّعٍ على أصل المسألة، فلا يبقى المُكلَّف في حيرة من أمره، لا يدري هل أدَّى ما يريده الله تعالى منه أو لا.
ولا يُقال: إنَّ الله ليس في حاجة لكلِّ هذه الدقة وما تُنتِجه من تعقيدات.
لأنَّه يًقال: ليست الحاجة لله تعالى، بل هي لنفس العبد ومن حيثيات مُهِمَّة تنعكس وجودًا في مختلف الأبعاد التربوية والنفسية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك مما تأتي الإشارة إليه قريبًا إن شاء الله تعالى.
وأمَّا البُعد الثاني فعنوانه الثقافة السلوكية لنفس العبادة المخصوصة، وهو ما تُبيِّنُه الآيات المباركة وحديثُ المعصومين الأطهار (عليهم السلام).
يؤدِّي المؤمِنُ الصلاة بكامل حدودها تَعبُّدًا وخضوعًا لله تعالى، ومن بعدها ينبغي عليه التأطر بها ثقافيًا ليتحول معها من التأثر الحالي إلى أن تكون ملكة، وبجدِّه واجتهاده قد يتحِدُّ معها فينفر كلَّ النفور عن الفحشاء والمنكر، والطريق إلى ذلك أن يعيش المؤمِنُ حقيقة التعبد، وهذا ما يمهد له البُعدُ الأوَّل، وأن يستحضر معاني القيام بين يدي الله تعالى والركوع والسجود وما نحو ذلك من أفعال الصلاة، وهو البُعدُ الثاني.
رُويَ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: “من أخلص العِبادةَ للهِ أربعين صباحًا، ظهرتْ ينابيعُ الحِكمَة من قلبِه على لسانِه”.
إذا عاشَ المؤمِنُ الحِكمَةَ وانتعشَ بها قلبُه، أنتَجَ رؤى وازنة في مختلف ميادين الحياة، وهذا لا يُنال بالتهاون في حدودِ العبادات واستصغار الجهود العظيمة في تدقيق الفروع وأحكامها.
وأؤكِّدُ مُكرَّرًا على أنَّ مجرَّد الامتثال بالعنوان الأوَّلي دون عناية بصغائر التفريعات وأحكامها لا يؤثِّر غالبًا في ضبط النفس واستدامتها على طريق تعظيم العبادة وتقديسها، وتدلُّ على ذلك القاعدة الأصولية القائلة بتبعية الدلالة للإرادة، ولا تُحرزُ الإرادة بغير تمام المعنى المطابق، وهذا تتكفل به التفريعات ودقتها.
ومن هنا، فإنَّ هذا المقال يوصي المؤمنين والمؤمنات بضرورة المحافظة على التهيب من الانزلاق في مهاوي منازعة الله تعالى ملكَهُ، وهذا ليس من باب التخويف لأجل التخويف، ولكنَّ الواقع يشير بوضوح إلى أنَّ مقولة (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) لم تتوقف عند فرعون، بل هي جارية ماضية في ثقافاتٍ وسلوكياتٍ تظهر في كثرة الجرأة على الأحكام الشرعية وخصوصًا في مجالات التوسُّع والتفريع، ولا كأنَّ التوسُّع والتفريع لا أقل أنَّها من مقتضيات الاحتياط!
قالت سيدتُنا الزهراء (عليها السلام): “ فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيرًا لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهًا لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتًا للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييدًا لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقًا لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظامًا لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أمانًا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزًّا لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْنًا لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضًا لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييرًا لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهًا عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجابًا عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجابًا لِلْعِفَّةِ. وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إخلاصًا لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، {فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}”.
كم من الآفاق التربوية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية تَفْتَحُها مِثْلُ هذه النصوص المُقدَّسة لذوي العقول والفِكر، فيستنبطوا كليات محكمة كلٌّ في تخصُّصه؟
لِمَ المُصادمة بين الأحكام الشرعية والتعمُّق في تفريعاتها، وبين العلوم الخاصَّة بإدارة أمور الأرض؟ إلَّا أن يكونَ المبنى فَصْلَ الدين عن الحياة وتوجيهه بحسب حاجاتها! فلنتأمل ولنحذر مثل هذه المنزلقات والمهاوي.
نعم، نحن في حاجة لجهود كبيرة وجادَّة في إبداع مسائل علمية في مختلف الميادين بالاستناد التام إلى الثقلين المُقدَّسين، وهذا مُتَّسِقٌ تمام الاتِّساق مع الأحكام الشرعية بتفريعاتها الدقيقة جدًّا.
السيد محمَّد علي العلوي
29 شعبان 1438 هجرية
2 تعليقات
أجدتم فيما أفدتم سيدنا العزيز..
وليت شعري هل الفقهاء هم المطالبون بالدَّرجة الأولى أن يستنبطوا قواعد ونظريَّات في التخصُّصات الإنسانيَّة؟ أم هو أصحاب التخصُّصات أنفسهم؛ الذين نادى شَطرٌ عظيمٌ منهم بعدم وجود نظريَّاتٍ اجتماعيَّة ونفسيَّة وتربويَّة من الثَّقلَين المقدَّسَين، وهل المطالبون إلاَّ أنتم، والثَّغرات إلاَّ ضعفكم وإهمالكم لحمل المسؤوليَّة؟
من السَّهل إلقاءُ الملامة على الآخرين، ولكن من العسر قبولها والعمل على إصلاحها بإتقانٍ وصدق نيَّة.
أحسنتم كثيرًا شيخنا الفاضل، وكم نعاني مثل هذه الالنقلابات في المفاهيم وما في حكمها..
نسأل الله تعالى الثبات والحِكمة..
العلوي