الثبوت والإثبات، ورباعية (الكتاب والعِترة) في توليد المعارف -2-

بواسطة Admin
0 تعليق

 طرحتُ في المقال السابق بعض الإثارات على سبيل شحذ الأذهان، وكانت:

  • نقول بحاكمية الثبوت على الإثبات، ولكن السؤال: كيف نعلم بالثبوت لنُحَكِّمُهُ على الإثبات؟ وكيف يعمل البرهان (اللمي) في المقام؟
  • بحسب مقامي الثبوت والإثبات كيف نفهم المعاني الحقيقية الحقَّة لآياتٍ من قبيل:
  • (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
  • (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
  • (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ).

قبل المضي، أذكر موقفًا حَدَثَ مع بعضِ الإخوة حين نقلوا عبارةً تقول: “القراءة للكتب الدينية من مذهبك فقط هو نوع خطير من الجهل”، فقلتُ:

القراءةُ فعل، والفعل من العاقل لا يصدر إلَّا عن باعث، وإذا كان الباعث للقراءة في كتب المذاهب (الإسلامية) الأخرى يشتمل على احتمالية صحتها وخطأ ما أنا عليه، فما أنا عليه حينها لا يقال عنه مذهبًا؛ إذ أنَّ المذهب من الثوابت، ونسبة الصحة في الثابتة محكمة تمام الإحكام، وكما يُعبَّر (100%)، وإن لم تكن كذلك فما أنا عليه ليس من الثوابت، ولكن يُقال عنه (قناعة)، والقناعة قابلة للتغير والتبدل، وليس المذهب منها، إلَّا أن يكون الحديث عن المذاهب السياسية أو الاقتصادية أو الفلسفية بشكل عام، والأمر ليس كذلك.

فقال أحد الإخوة ما نصُّه: “يُشْكَلُ على الكلام، ويُقال: غيرك معتقِدٌ بمذهبه، ولا داعي للبحث”.

أقول: يَبْقَى المَجَالُ مَفْتُوحًا دائمًا أمام القناعات لتُناقش على أساس احتمال الخطأ، وهذا أمر مهم نحتاج المحافظة عليه وصيانته وإبعاده عن العصبيات والتحجر.

ليس الأمر هكذا عندما يكون الكلام في (الثوابت)؛ حيث إنَّ احتمال ورود الخطأ في أصولها مُنتفٍ، وإلَّا فلا تُوصَفُ بالثابتة. نحن المسلمون الشيعة لا ندَّعي أنَّنا على الحق، بل نجزمُ عن يقينٍ مُحْكَمٍ كل الإحكام بأنَّنا من حيث تَشَيُّعِنَا حقٌّ بلا أدنى مجال للتشكيك، ولا يُقَال أنَّ الآخر يقول بما نقول؛ إذ أنَّ المقامَ مقامُ وجودٍ وعدم، وبما أنَّ الثبوت عندنا يقيني، فلا يمكن أن يكون الآخر على حقٍّ، ومِثلُه مِثلُ المُعَايِن للشيء ومن يحاول تثبيت خلاف ما عاين. فتأمَّل جيِّدًا.

أتحدَّثُ حَوْلَ بطلان النسبية في الثوابت لابتناء الصحة في قيام الرشد الفِكري على انكشاف كلياتٍ ثُبُوتِيَّةٍ للعَقْلِ البرهاني، وهو العقل الذي يعتمد الأوليات العلمية في سلوكه طريق المعرفة، ويرجع هذا الانكشاف -فيما أرى- إلى اتِّصالٍ تكويني بين العقل وعالم الثبوت، ما إن يغفل عنه الإنسان ويستمر في غفلته إلَّا وضلَّ ومشى مُكِبًا على وجهه بلا نور يهتدي به (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، و(أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

لحدِّ الساعة لم يكتشف العِلم التجريبي طبيعة الإحياء وجنس النور وما نحو ذلك من وجودات تكوينية يقرِّر القرآن الكريم شيئًا منها، ولكنَّنا نُدرِكها ونستوعب وجودها استيعابًا برهانيًا بإعمال القوانين العلمية التكوينية لهذا الوجود، فنقف -مثلًا- على استحالة الإدراك والانكشاف دون قناة من جنس الوجود الإدراكي والتعقلي للإنسان، والوجه في ذلك استحالة التولد في عالم الإمكان ما لم يلتق وجودان، ومن هنا فإنَّ إدراكنا لشيءٍ كاشِفٌ عن التقاء شيئين، وهكذا؛ إذ أنَّ النتيجةَ مُسْتَخْلَصَةٌ مِنْ وجُودَينِ، ولو حللناها لرجعت لما استُخلِصت منه.

قام عندنا البرهان اليقيني على وجود خالِقٍ غني مطلقًا، وقام البرهان اليقيني على التوسط العِلِّي بين الخالِق والمخلوق، وأُحيطَ المقامان بأحاديث غاية في الدِقَّة عن العِترة الطاهرة، وهم العِلَّة المتوسطة، كما يُعبِّرُ بعضُ المُتكلمين والفلاسفة، والنور الأوَّل الذي انبثق منه الخلق، والحجاب، كما تُعبِّرُ الأحاديث الشريفة[1].

بانَ البُرهانُ في وجدان الإدراك السوي فظهرت مقتضياته وملازماته، ومنها كمال العِترَةِ الطاهرة بما يليق بعالم الخلق والإمكان. هذا وجود ثبوتي حاكم على الإثبات بما يقتضيه الإحكام المنطقي.

الآن..

  • (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
  • (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).
  • (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ).

نتمكن بأريحية علمية حمل هذه الغفلة والضلال وعدم الدراية على حسابات الدنيا، والأمر هيِّنٌ سهل، وبيان ذلك أن نقول:

للمعصوم (عليه السلام) شخصية ثبوتية هي حقيقته التكوينية، وأخرى إثباتية يتعامل من خلالها بمقتضيات عالم الإمكان وحساباته.

مثلًا:

جاءوا للإمام الرضا (عليه السلام) بفاكهة مسمومة، ولو كان السم ظاهرٌ عليها لما أكل منها، وهذا هو الحال الطبيعي، ومع عدم ظهوره فالطبيعي بحسب موازين الدنيا أن يأكل منها. هو يعلم ثبوتًا بأنَّها مسمومة، ولكنَّه يتعامل بحسب الإثبات، ولا يُقال بأنَّه رمي للنفس في التهلكة؛ إذ أنَّ المقام مقام إثباتي، كما كان الحال في علم أمير المؤمنين (عليه السلام) بحقيقة الأمور، إلَّا أنَّه لا يقيم الحدود إلَّا ببينة شرعية بحسب الموازين المعروفة.

هذا، ولو رجعنا لعلماء التأويل، وهم أهل البيت عليهم السلام (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لوقفنا على عمق المعاني المقصودة.

روى العياشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله: “(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، قال (عليه السلام): فردًا لا مِثْلَ لَكَ في المخلوقين، فآوى الناس إليك. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي ضَالَّة في قومٍ لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. (وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك”.

كم نضلّ بابتعادنا عن معين العِترة الظاهرة.. فالحمد لله على نعمة الوَلاية.

 

السيد محمَّد علي العلوي

24 شعبان 1438 هجرية

 

  
[1] – يمكن للقارئ مراجعة بحث (النداء الأعظم): http://main.alghadeer-voice.com/archives/4363
 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.