بين السائل والإمام جعفر بن محمَّد الصادق (عليهما السلام):
قال السائل: “فيعاني الأشياء بنفسه (يقصد الله تعالى)؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجَلُّ من أن يعاني الأشياء بمباشرةٍ ومعالجةٍ؛ لأنَّ ذلك صفة المخلوق الذي لا يجيء الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة، وهو تعالى نافذ الإرادة المشية، فَعَّالٌ لما يشاء.
قال السائل: فله رضى وسخط؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): نعم، وليس ذلك على ما يوجد في المخلوقين، وذلك أنَّ الرضا والسخط دخَّال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال، وذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى العزيز الرحيم لا حاجة به إلى شيء ممَّا خلق، وخلقه جميعًا محتاجون إليه، وإنَّما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعًا وابتداعًا”.
على طريق النظر:
- يعاني، من المعاناة، والقصد هو بذل الجهد للإدراك أو العلم أو ما شابه، وهذا الدور يقوم بفعل النظر أو السمع أو الشم أو اللمس أو التذوق أو الانتزاع الذهني، فتحضر صورة الشيء الذي وقع عليه الفعل في الذهن، فيتحقق العلم وما بعده من معارف.
يصرِّحُ الإمامُ (عليه السلام) بضِعةِ هذا الدور إذا كان الحديث عن الخالق تبارك ذكره؛ وذلك لغناه المطلق، والقول بارتكاب الفعل ناقض لما ثبت من غناه المطلق.
- نفاذ الإرادة، والمبالغة في الفعل (فَعَّال)، وهي إرادة لا تتوقف في نفاذها على شيء مطلقًا؛ لأنَّ توقفها ناقض لغناه المطلق جلَّ في علاه، والمبالغة في الفعل بصيغة (فعَّال) لا يراد منها كثير الفعل؛ إذ أنَّ القول بالفعل ناقض لغناه المطلق، سواء كثر أو قلَّ. وسوف يأتي بيان مفصل -إن شاء الله تعالى- لفعل الله تعالى وما في معناه.
وكذا يقوم الفهم قياسًا على كبرى الغنى المطلق للباري جلَّ في علاه عند الحديث عن رضاه وسخطه تبارك ذكره.
- ذهب بعضٌ إلى القول بمفروغية الله تبارك ذكره من الخلق، وجعل لتسييره قوانين ثابتة، وقد أدَّى بهم ذلك إلى نفي الصفات، ومنهم من نفى الأسماء والصفات، وبهذا المعنى انتقل الكلام للقول بـ(التعطيل). وذهب آخرون إلى أنَّه جلَّ وعزَّ يفعلُ القيام والكلام والجلوس وما إلى ذلك فعلًا، وغاية ما في الأمر أنَّ الإنسان لا يُدرِكُ الكيفية، وبقولهم انتقل الكلام للقول بـ(التشبيه).
سُئِلَ أبو جَعفرٍ (عليه السلام): “أيجوزُ أنْ يُقَالَ: إنَّ الله شيءٌ؟
قال: نعم، يخرجه مِنَ الحَدَّينِ: حَدِّ التَعْطِيلِ وحَدِّ التَشبِيهِ”.
أُنَبِّهُ إلى مرتكزٍ مهمٍّ، فأرجو الانتباه جيِّدًا..
نقع في مشكلة عظيمة عندما نُفَكِّرُ في الله سبحانه وتعالى من خلال خلقه على نحو المقايسة والإسقاط، ومن أهم الأمثلة على هذه الثقافة الخاطئة مِثال الفعل والفاعل، فنحن في هذا الوجود المخلوق نعي جيِّدًا الفرق بين الشمس وضيائها، وبين الضربة والضارب، وبين الحديث والمتحدث، فالشمس فاعلة عليَّة للضياء، وضياؤها مفعول ومعلول لها، والضارب فاعِلٌ للضربة، والضربة مفعولة له، والمتحدِّثُ فاعِلٌ للحديث، والحديث مفعولٌ له.
نرى بوضوح بَيْنًا يحدِّدُ الفعل عن الفاعل.
السؤال الآن:
أين كان ضياءُ الشمس قبل أن تفعله الشمس؟ وأين كانت الضربة قبل أن يفعلها الضارب؟ وأين كان الحديث قبل أن يفعله المتحدِّثُ؟
وأي كان كلُّ مفعولٍ قبل أن يفعله الفاعل؟
من المهم الانتباه إلى أنَّ الضياء المُتشخِّص للبصر، والضربة المتشخِّصة للشعور، والحديث المُتَشخِّص للسامعة، واقِعَةٌ كلها في مرحلة من مراحل وجودها، أُسميها بمرحلة (التشخص والمعاينة)، وإلَّا فهي بالضرورة كانت شيئًا قبل تشَخصِها في مرحلة التقائها بأدوات الإدراك عند الإنسان، ووجه الضرورة استحالة النشوء من العدم. وما أذهب إليه هو وجود المفعول في نفس الفعل على نحو الكمون، ويظهر بتأثير الفاعل ظهورًا تَشَخصيًّا، ونفس الأمر في العلل والمعلولات، وقد فصلتُ الكلام في بحث (المسؤول، في النية والفعل والمفعول)، ومن أحبَّ فليراجع.
هذه الفواصل التكوينية بين الفاعل والفعل والمفعول هي من خواص عالم الإمكان المخلوق، ومن مقتضيات قاهرية ظرفي المكان والزمان، ولغناه المطلق فإنَّها لا ترقى على الإطلاق لتصور الخالق سبحانه عليها، فلا يُقال: يعاين أو يعاني أو يفعل أو يرزق أو يخلق بالمعنى المناسب للمخلوق، ولا يُقال: فرغ من الخلق، ولا يُقال ما شأنه الانضباط باللحظة واللحظة.
إنَّه غني مطلقًا جلَّ في علاه، وهذه كبرى أصيلة لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا أبدًا.
أرجو من القارئ الكريم تأمل هذا الحديث الأنيق تأملَ أناقة تليق بشيء منه..
عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: إنَّ اللهَ خلو مِن خَلقِهِ، وخَلْقَهُ خلو مِنْهُ، وكُلَّمَا وَقَعَ عليه اسمُ شيءٍ فهو مَخْلُوقٌ ما خَلا الله”.
يشير هذا الحديث الشريف إلى نفي المقايسة الظرفية بعبارتين موجزتين غاية في الدقة، أمَّا الأولى فخلو الباري عزَّ وجلَّ من خلقه، والثانية خلو خلقه منه، والحال أنَّ كلَّ شيءٍ دون الله تعالى مخلوقٌ له، فتنتفي المدلولات الظرفية عن دوالِّها عند الحديث عن الله تعالى، وترتفع في الفهم إلى مستوى المعاني.
مثلًا:
العلم بالنار من حيث تركبها من عناصرها عِلمٌ داخل في علم أدق منه، وهو العلم بها بما هي هي، والأول مناسب لمحدودية إدراك الإنسان، ولو أنَّه يترقى لاكتفى بما هو أدق، وهكذا فإنَّ صفاته سبحانه وتعالى عين ذاته، فلا يكون عالمٌ ومعلومٌ على نحو الفصل وتحقُّقِ البَين.
ينبغي الانتباه بِجِدٍّ إلى أنَّ العقل البشري عاجزٌ تمام العجز عن استيعاب ما يرقى عن حدود عالم الخلق والإمكان؛ وذلك لقاهرية المكان والزمان.
قد يصعب على البعض هضم مثل هذه المسائل، ولكنَّي أدعوهم للاطمئنان تمامًا، فمع مواصلة القراءة، لن يستغرق الأمر طويلًا حتَّى يتحقَّق الغرض بتأسيسات عقدية متينة لا تؤثر فيها الشبهات ولا تطرأ معها إشكالات.
أطرح الآن السؤال التالي:
لماذا خلق الله الخلق؟ ما هو السبب؟ ما هي العلَّة؟
هل خلق الخلق ليُعبَد كما هو صريح الآية الكريمة؟ أم أنَّه تبارك ذكره خلق الخلق ليجعل خليفة في الأرض؟
أتعرَّض بمعيتكم في المقال القادم -إن شاء الله تعالى- لبحث هذه الإثارة. والآن أترككم مع هذه الإفادات لإمامنا الصادق (عليه السلام)، وأرى تمكنكم من تفكيكها وهضمها بممارسة ما تقدم في هذا المقال والمقالات السابقة، وأنصح بقوة تكرار القراءة بتأمل وتدبر، فكلام المعصوم (عليه السلام) ولَّاد ما بقي الدهر.
عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنَّه قال للزنديق حين سأله: ما هو؟
قال: هو شيءٌ بخلاف الأشياء، أرجع بقولي إلى إثبات معنى، وأنَّه شيءٌ بحقيقة الشيئية، غير أنَّه لا جسم ولا صورة ولا يُحَسُّ ولا يُجَسُّ ولا يُدْرَكُ بالحواسِّ الخمس. لا تُدركه الأوهام ولا تُنقصه الدهور ولا تُغيره الأزمان.
فقال له السائل: فتقول: إنَّه سميعٌ بصيرٌ؟
قال: هو سميعٌ بصيرٌ. سميعٌ بغير جارحةٍ، وبصيرٌ بغير آلةٍ، بل يسمع بنفسه ويُبصر بنفسه. ليس قولي: إنَّه سميعٌ يسمعٌ بنفسه وبصيرٌ يُبصر بنفسه أنَّه شيءٌ والنفس شيء آخر، ولكن أردتُ عبارة عن نفسي؛ إذ كنتُ مسؤولًا، وإفهامًا لك إذ كنتَ سائِلًا، فأقول: إنَّه سميعٌ بِكُلِّهِ، لا أنَّ الكلَّ منه له بعض، ولكِنِّي أردتُ إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك الَّا إلى أنَّه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.
قال له السائل: فما هو؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الربُّ وهو المعبود وهو الله، وليس قولي: الله، إثبات هذه الحروف: ألف ولام وهاء، ولا راء، ولا باء. ولكن أرجع إلى معنى وشيء خالق الأشياء وصانعها، ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمي به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود عز وجل.
قال له السائل: فإنَّا لم نجد موهومًا إلَّا مخلوقًا.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنَّا مرتفعًا لأنَّا لم نُكلَّف غير موهوم، ولكنَّا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك به تحدُّه الحواس وتمثله فهو مخلوق؛ إذ كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية: التشبيه؛ إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف فلم يكن بدٌّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار إليهم أنَّهم مصنوعون وأنَّ صانعهم غيرهم وليس مثلهم؛ إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لبيانها ووجودها.
قال له السائل: فقد حددته إذ أثبت وجوده.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحده، ولكنِّي أثبته، إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة.
قال له السائل: فله إنية ومائية؟
قال: نعم، لا يثبت الشيء إلَّا بإنية ومائية.
قال له السائل: فله كيفية؟
قال: لا، لأنَّ الكيفية جهة الصفة والإحاطة ولكن لابدَّ من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه؛ لأنَّ من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيته وأبطله، ومن شَبَّهَهُ بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية، ولكن لابدَّ من إثبات أنَّ له كيفية لا يستحقها غيره، ولا يُشَارَكُ فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره.
قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجلُّ من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة؛ لأنَّ ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيئُ الأشياءُ له إلَّا بالمباشرة والمعالجة، وهو متعالٍ نافذ الإرادة والمشيئة، فعَّال لما يشاء”.
السيد محمَّد علي العلوي
18 شعبان 1438 هجرية