التَوحيدُ والكَمَالُ، ونَقضُهم بِدَلَالَةِ الفِعْلِ عَلى النَقْصِ -1-

بواسطة Admin
0 تعليق

يُورِدُ المستشكلون من الملحدين وغيرهم إشكالًا على عقيدة القول بوجود خالقٍ لهذا الكون صفته الغنى المطلق، منشأه عدم استقامة دعوى الغِنَى المطلق مع ثبوت الفاعلية للخالق؛ من حيثُ كون الفعلِ كاشفًا عن حتمية وجود نقص دفع إليه لرفعه، فالفاعل يفعل لسدِّ حاجة يعيشها ولو كانت مُتَوَهمة، ومن جِهةٍ أخرى يُنقِضون بحتمية كون الفعل مظروفًا للمكان والزمان حتمًا، وهذا أيضًا لا يستقيم مع دعوى الغنى المطلق للخالق؛ إذ أنَّ فعله يحتاج إلى مكان وزمان، وإلَّا فلا فِعل أصلًا.

للجواب على هذا الإشكال لا بدَّ لنا أولًا من الإرجاع إلى الكبرى الأصيلة التي وقفنا على رسوخها التكويني في النظام المعرفي، وهي: وجود الخالق الغني مطلقًا، وقد فرغنا[1] من بيانِ شيءٍ من وجوه الإمضاء البرهاني لهذه الكبرى، وبالتالي فإنَّ أيَّ إشكال قد يرد في الذهن، لا يُمكِن الارتفاع به للمناقشة في أصل وجود خالقٍ صفته الغنى المطلق؛ وهذا واضحٌ لدورِ القواعد والكليات في البناء المعرفي، والذي يشتدُّ إلى مستوى عبثية المراجعة إذا ما كان برهانيًا يقوم على أوَّلية الانتظام القانوني من الكون إلى العقل، كاستحالة اجتماع النقيضين وبطلان التسلسل وما نحو ذلك، وقد بيَّنَا مُفصَّلًا المغالطات المُوجَّهة للإذهال عن هذه الأوليات[2].

مثالٌ تقريبي.. أكرِّرُ وأؤكد على أنَّ هذا المثال للتقريب فقط:

يُحِبُّ الوَالِدانِ أولادَهما ولا يُفَكِّران لهم في غير الخير والصلاح.

هذه كبرى أصيلة، وبالتالي فإنَّ أيَّ تصرُّفٍ يصدر عن أحدِهما لا يمكن القيام به للنقض على مقولة حبِّ الوالِدَينِ لأولادهما.

نعم، قد يخطئان التقدير، وقد يأخذهما الغضب فيسيئان التصرف، ولكنَّ هذا لا يُنقض به على الكبرى، بل ببركتها تُلتَمَس لهما الأعذار دائِمًا.

من هنا، كان من اللازم موافقةً لمسلمات المنهج العِلمي الاجتهاد في فهم مسألة الفعل الإلهي بناءً على حتمية الغنى المطلق للإله جلَّ في علاه، وذلك لكون وجود الخالق الغني مطلقًا ثابتًا بالإحكام البرهاني، وقد وجدنا الكثير من الأحاديث العالية الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) تتناول هذه المسألة بدقة، ومنها جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على سائلٍ..

قال السائل: “فيعاني الأشياء بنفسه (يقصد الله تعالى)؟

قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجَلُّ من أن يعاني الأشياء بمباشرةٍ ومعالجةٍ؛ لأنَّ ذلك صفة المخلوق الذي لا يجيء الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة، وهو تعالى نافذ الإرادة المشية، فَعَّالٌ لما يشاء.

قال السائل: فله رضى وسخط؟

قال أبو عبد الله (عليه السلام): نعم، وليس ذلك على ما يوجد في المخلوقين، وذلك أنَّ الرضا والسخط دخَّال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال، وذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى العزيز الرحيم لا حاجة به إلى شيء ممَّا خلق، وخلقه جميعًا محتاجون إليه، وإنَّما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعًا وابتداعًا”.

لن أتعرَّض في هذا المقال للنهل من كلمات الإمام (عليه السلام)، فالمقام يحتاج أوَّلًا لمقدمة فكرية أراها في غاية الأهمية، وهي:

 قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ”[3].

نطرح التساؤلات التالية:

ما العلاقة بين معرفة النفس ومعرفة الربِّ سبحانه وتعالى؟

من أيِّ جهةٍ نعرف النفس لنعرف الرب؟

ما هو مستوى المعرفة بالربِّ الذي تُحقِّقه المعرفة بالنفس؟

وغيرها من الأسئلة..

ما أريد قوله، هو أنَّ المعصوم (عليه السلام) يُلقي مفاتيح علمية، وعلينا مسؤولية التفكيك والتحليل والإرجاع، ثُمِّ التركيب والبناء، وهذا الحديث عن الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) مثالٌ واضِحٌ على ذلك.

مِثالٌ آخر ما تواتر عنه (صلَّى الله عليه وآله) من تركه الثقلين في الأمة، كتاب الله والعترة الطاهرة، ثُمَّ أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) بيَّن حتمية العصمة من الضلال بالتمسك بهما. وهنا نتساءل:

ما هو التمسك العاصم من الضلال؟

كيف نتمسك بهما والقرآن الكريم قابل بقوة لتعدد الأفهام وتباينها في كثير من المواضع والمواقع، وأمَّا أحاديث العترة فهي عند جماعة ظنيَّةً، وكيف يعصمنا الظنِّي؟ ناهيك عن اشتراكها مع القرآن الكريم في مشكلة الفهم؟

هذه الأسئلة تفتحنا على بحوث معرفية معمَّقة تُخرِجنا فعلًا من دوائر الضعف إلى جنان اليقين.

ومن هذا المنطلق نتناول في المقال القادم إن شاء الله تعالى كلام الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه على السائل.

 

السيد محمَّد علي العلوي

17 شعبان 1438 هجرية

[1] – مقال: فلسفة الإلحاد ومنهجية أجزاء العِلَّة: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4406
مقال: نظرية الفوضى في قبال برهانية الكليات الخمس على الخالق جلَّ في علاه: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4409
مقال: الغني المطلق ببرهان سلسلة العلل في إحكام مشجرة الأجناس: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4412
مقال: عقيدة التوحيد والأصول الفكرية الثلاثة: http://main.alghadeer-voice.com/archives/4428
[2] – سلسلة مقالات بعنوان: (الثابتة والحداثة والعلم) تجدونها على موقع (صوت الغدير): http://main.alghadeer-voice.com
[3] – مصباح الشريعة – المنسوب للإمام الصادق (ع) – ص 13

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.