تتراوح الآداب الحميدة والذَّميمة، بين كونها كسبيَّة نظريَّة، أو ضروريَّة بدهيَّة، فالأولى تحتاج إلى نظرٍ وتمعُّنٍ كي يتحلَّى بها الفرد، بل وتحتاج للتعلُّم والقراءة في سِيَر وتراجمِ أهل الخُلُق والأدب، والبحث النَّظريِّ في كتب الأخلاق للوقوف على حقيقة عِدَّةٍ من الصفات الباطنيَّة التي تتجسَّد فتكون خُلُقًا؛ حميدًا كان أم ذميما.
وقد سمع أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رجلاً يشتم قنبرًا، وقد رام قنبرٌ أن يردَّ عليه، فناداه أميرُ المؤمنين (عليه السلام): مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مُهانًا ترضي الرَّحمن وتُسخِطُ الشَّيطان وتعاقِبُ عدوَّك، فوالذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسَمة، ما أرضى المؤمنُ ربَّه بمثل الحِلم، ولا أسخطَ الشَّيطانَ بمثل الصَّمت، ولا عوقِبَ الأحمقُ بمثل السُّكوت عنه.
وقال الصَّادق من آل محمدٍ (عليه وعليهم السَّلام): “من التَّواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلِّمَ على مَن تلقى، وأن تترُكَ المِراء وإن كُنتَ مُحِقًّا، ولا تحبَّ أن تُحمَدَ على التَّقوى”.
وعنه (عليه السلام) قال: “جاء رجلٌ موسِرٌ إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نقيُّ الثَّوب فجلس إلى رسول الله، فجاء رجلٌ معسرٌ درنُ الثَّوب فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسِرُ ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أخِفت أن يمسَّك من فقره شيءٌ؟ قال: لا، قال: فخِفْتَ أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا، قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إنَّ لي قرينًا يُزَيِّنُ لي كلَّ قبيحٍ ويُقَبِّحُ لي كُلَّ حَسَن، وقد جعلتُ له نِصفَ مالي، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للمُعْسِرِ: أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرَّجل: لِمَ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك”.
وكان أميرُ المؤمنين (عليه السلام) يُحَدِّثُ ولدَه الإمام الحسنَ المُجتَبَى (عليه السلام) قائلاً: “با بُنَيَّ، ألا أُعَلِّمُكَ أربعَ كلماتٍ تستغني بها عن الطِّب؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: لا تجلس على الطَّعام إلاَّ وأنت جائعٌ، ولا تقم عن الطَّعام إلاَّ وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسَك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنَيتَ عن الطِّب”.
وعن سيِّدنا ومولانا الإمام موسى بنِ جعفرٍ (عليهما السلام) أنَّه قال: “ليس مِنَّا مَن لم يُحاسِب نفسَه في كُلِّ يوم؛ فإنْ عَمِلَ حسنةً استزادَ اللهَ تعالى، وإن عَمِلَ سيِّئةَ استغفر الله تعالى منها وتاب إليه”.
وهذا بابُه رحبٌ وسيع، أنَّى له الانقضاء، وقد ملأت آثارُه الأرضين والفضاء!.
وأمَّا القِسمُ الآخَر، فهو مِمَّا لا يُلَقَّن عادةً، ولا يُتلى من الكتب تلاوةَ تمعُّنٍ وتدبُّر، لا لأنَّه مفقود القيمة؛ بل لأنَّه بدهيٌّ مستغنٍ عن التعليم المباشر.
فالعادةُ أن يتعلَّمه الفرد منذ الصِّغر، نعم بيئتُه هي التي تربِّيه عليها دون أن تشعر هي بذلك، ودون أن يشعُرَ هو بذلك؛ لأنَّ الأمورَ الثَّابتةَ في أعراف أهل الأمن والإيمان قد جعلت عيالها في حِرزٍ حريزٍ من الآفات الأدبيَّة والاجتماعيَّة، ولولاها لتوغَّلت النُّفوس بالمكدِّرات، ولَنأت عن الصَّفاء والخُلُوص الذي أراده لنا ربُّنا (جلَّ في علاه) وسادتُنا الأطهار (عليهم السلام).
وهذه الآداب العامَّة البدهيَّة شأنُها شأنُ البدهيَّات الأخرى، فكما أنَّ العلم الكسبيّ لا يتحقَّقُ إلا برجوعه ومآله للعلم البدهيّ، كذلك هي الآداب العامَّة، فالأخبار التي ذكرناها سابقًا عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) وغيرها التي تتحدَّث عن الآداب الكسبيَّة، لا تتأتَّى لأيِّ فردٍ إلاَّ بأنْ تكون له قاعدةٌ نظيفةٌ عامَّة تقبلُ طبيعةَ هذه التعاليمِ الجليلةِ التي تسمو بالإنسان فترفعُ شأنه وتُعلي قدرَه.
ولعلَّه لهذه النُّكتة لم يرِدْ ذِكرُها كثيرًا في أخبارهم (عليهم السلام)، ولم يكن الأئمة الطَّاهرون يتشدَّدون في تثبيتها؛ لأنَّها بطبيعة الحال ثابتةٌ في النَّفس النظيفة السَّويَّة التي نشأت في بيئة السِّلم والسَّلام والاحترام.
وأضربُ مثالاً واحدًا لهذا النَّوع من الآداب العامَّة، وللقارئ اللَّبيب أن يعيَ ما أرمي إليه في هذه المقالة:
حُرمَة كبير السِّن.. يبدو أنَّ بعضَ من يقرأ الآن يصيبه شيءٌ من الغرابة!، لا داعيَ للغرابة هذا اليوم، فما أكثر مَن نُزِعَ من قلبه توقير الكبير في السِّن.
نحن في المقام لا نتحدَّث عن الكبير في الشَّأن والمنزلة، ولا نتحدَّث عن الكبير في قومه، فربما يكون هؤلاء بحاجةٍ إلى تعليمٍ وتلقينٍ لاحترامهم وتوقيرهم، نحنُ نتحدَّث عن أولى اللَّبِنات لبناء كثيرٍ من الكمالات، توقير الكبير في السِّن، سواء بسنوات أو بسنين.
يدخل كبار السِّن إلى المساجد أو المآتم أو المجالس، فلا يجدون لهم موضعًا للجلوس، وإذا بالمجالس المريحة فائضةٌ من الصِّغار!، ولا نرى أيَّ أحدٍ منهم يدير بالاً لِمَن دخل ما دام هو قد حصل على ما يريده من مجلسٍ تطيب له الأبدان.
والأدهى من ذلك أن نرى أنَّ الأب متربِّعٌ على كرسيٍّ وأبناءَه كذلك يملؤون الأرائك المحيطة به، فيدخل الكبار فيفترشون وسط المجلس خوفًا من أن يأمر طفلاً من الأطفال بالتَّنحِّي فيزعل والده أو تتأثَّر نفسيَّة الطفل نفسه.
وكذلك بين الزملاء والأصحاب وأهل القرابة والمودَّة، هناك كبيرٌ وهناك صغير، وليست تلك مقتصرة على الغرباء والبعداء، فالآداب عامَّة كانت أو خاصَّة لا تختلف باختلاف الأفراد إلاَّ في موارد ضيِّقة يفهمها أولو الألباب في مظانِّها. فالأخُ الكبير يبقى أخًا كبيرًا، والصَّديق الكبير يبقى هو هو، مهما تقاربوا وتلاحمت الحواجز، تبقى أمورٌ لا يتنازل عنها كلُّ ذي أدَبٍ وحِكمة.
ألَمْ يأمُرْنا رسولُ الله والأئمة الطَّاهرون (عليهم أفضل الصلاة والسلام) بتوقير الكبير في السِّن، فضلاً عن كونه كبير شأنٍ ومنزلة، ألم يكن هذا الأدب متسالَمًا متعارفًا بين جميع طبقات المسلمين بلا أيِّ فرق، فلم نفتح أعيننا على هذه الدُّنيا إلاَّ ونحن نرى أنَّ الكبير له مكانته ومهابته المحفوظة التي لا تُمَسُّ.
العجيب في الأمر، أنَّنا هنا نتحدَّثُ عن مثل هذه البدهيَّات، فلو صادفتَ حالةً من هذه الحالات المريضة، كيف ستعالجها، هل ستسنكر وتنصح؟ يبدو أنَّ ذلك مُخجِلٌ، فأمثال هذه الأمور تأبى التَّلقين كغيرها من الأمور النَّظَريَّة، لا سيَّما إذا شبَّ الشَّابُّ وهو لا يعي هذه الأمور، ماذا تصنع معه؟ فلا أنت قادرٌ على تعليمه هذه الأولويَّات، ولا أنت قادرٌ على الإغضاء والمضيّ لكونها من الدركات السِّحيقة في تلوُّث النَّفس الفرديَّة والاجتماعيَّة، فهل تتصوَّر أنَّك ستقول لأحدهم يومًا: اشرب الماء بهذه الكيفيَّة وكُلِ الطَّعامَ بتلك الطريقة، إنَّ هذا الأمر سيِّءٌ للغاية.
فهل بعد هذا وذاك نرمي أولادَنا ولا نقتحمَ ساحةَ تأديبِهم وتعليمِهم منذ الصِّغر بحُجَّة أنَّهم صغار وليفعلوا ما شاؤوا؟ فلا أدب ولا تأديب، ولا منذرٌ ولا رقيب!.
اللهمَّ نبِّهنا من نومة الغافلين، بمحمَّدٍ وآله الطَّاهرين، صلواتك عليهم أجمعين.
أحمد نصيف البحراني
النصف من شعبان 1438 للهجرة