منعطفُ تدوين الفلسفة كعلم

بواسطة Admin
0 تعليق

فلسفة

منعطفُ تدوين الفلسفة كعلم

تبرز في الساحة المعرفية بين الفينة والأخرى مواجهاتٌ عِلمِيَّةٌ يرجعُ بَعْضُها لنظريَّةٍ ذات أبعادٍ تَتَّسِمُ بالحساسية، كما قيل في القضاء والقدر، وفي المعاد إن كان جسمانيًا أو لا، وفي خلق القرآن، وما نحو ذلك من رؤى ونظريات أعم من رؤى ونظريات الحقِّ وغيرها.

تُعدُّ (الفلسفة) من الأمور التي لم تَتَوَقَّف النزاعات والصراعات حولها منذ مئات السنين، وكانت البداية بسبب الاختلاف في المفاهيم وإمكان المعرفة والنظريات المتحصلة بالنظر كَعَالَمِ المُثُلِ والإنسان الكامل واستحالة صدور أكثر من الواحد عن الواحد، وما نحو ذلك من قضايا حصَّلها النظر، وهي مثل مختلف القضايا دون حصر أو إرجاع لعلم بعينه؛ وذلك لاستقلال الفِكرة محلّ النزاع عن عِلمٍ أو فَنٍّ أو ما شابه، وإن رجعت إلى أحدها فالنزاع بينهم فيها؛ فهي ليست أكثر من مسألة من مسائل العِلم، وربَّما أقل.

بالرغم من أنَّ الخِلاف عادةً ما يكون في مسائل بعينها، إلَّا أنَّ الموقِف الضد من الفلسفة قد تميَّز بأمرين توزَّعا على مرحلتين، كانت الأولى في زمن فلاسفة اليونان، وفيها توجَّه العداءُ لأشخاص (الفلاسفة)، وأذهب قويًّا إلى أنَّ أبرز دوافع العداء كانت سياسية بشكل خاص واستبدادية من جهة أعم، وإلَّا فالدوافع العِلمِيَّة لم تذهب بالمتناظرين إلى حدِّ العداء.

وأمَّا المرحلة الثانية فقد تميَّز بها المجتمع العلمي الإسلامي في عصر الترجمة وبعد تدوين الفلسفة كعِلم، وهذا الأخير هو ما أعتقده سببًا رئيسًا في تعقيد مشكلة المناظرة العِلمية، فما أراه أنَّ خطوة تدون الفلسفة كعلم لم تكن صحيحة، وهي من أهم أسباب مشكلة العداء مع الفلسفة.

توضيح:  

ينشأ تدوين العلم من غاية محدَّدة يجمع الباحثُ من أجلها كُلَّ ما يُمْكِنُهُ من مسائل ترتبط بها، ويبدأ برصِّها كَسورٍ للعلم مع التنقيح والمعالجة حتَّى يقيمه على أسسٍ واضحةٍ معلومة، ومثال ذلك الشعور بالحاجة إلى قواعد يصون التزامُها اللسانَ من اللحن في القول، فبُحِث الرفع والنصب والخفض والجزم من جهة علاقة كُلِّ واحدٍ منها بحال الكلمة التي هي موضوع ما اصطُلِحَ على تسميته بعلم (النحو) الذي هو عبارة على مجموع المسائل المتعلقة بِمَا يؤثر في آخر الكلمة، فكان سور العلم المشتمل على مسائله هو هذا: أحوال آخر الكلمة وما يؤثر فيه.

في مثل علم (النحو) يتخيَّر الباحِثُ المنهج الذي يرتضيه في تدوينه لمسائل العلم، ولكن بشرط أن لا يُخرِجه عن حدود السور، فالمنهج مُضبَطٌ بسورٍ تُحدِّدُه غايةٌ مُحْكَمَةٌ ومُحَكَّمَةٌ، ويصحُّ هذا فيما يتعلَّق بالمفعول للعقل وسائر قوى الإنسان من علوم وفنون، وأمَّا ما يتعلَّق بنفس طبيعة الفِكر فالأمر مُخْتَلِفٌ.

يَنْبَعِثُ الإنسانُ في تعقُّلاته وفكره من جبلَّة الإدراك، فهو مُتَسَائِلٌ ومُحِبٌّ للتحقيق بالفطرة، وفي خصوص هذا البُعدِ الأصيل فيه، فإنَّه من غير الصحيح حصر نتاجه المعرفي في سور علمي؛ وذاك لأنَّ متعلَّق المسائل هو نفسه الفكر، فهو الفاعل من جهة والمفعول من جهة أخرى، والحال أنَّ الفكر في حاجة إلى ضبطٍ بقوانين من جهة غيره وهو مفعول لها.

توضيح:

يَنْقَادُ الفِكْرُ السوي إلى جهتين رئيسيتين، الأولى هي الحقائِق الحقَّة، ورأسها أنَّه مظروف للزمان، فلا يتمكَّن من الخروج عنه ولا حتَّى بتصوراته الذهنية؛ حيث إنَّ نفسَ التصور الذهني هو انتقال من نقطة إلى أخرى، وهذا الانتقال مظروف للزمن لا محالة، فهذا قانون ضابط لحركة الفِكر. وأمَّا الثانية فهي الغني المُطلق، وحقيقته ثابتة بالوجدان؛ إذ أنَّ نفسَ حركةِ الفِكر معلولة لنقص حقيقي يتحرَّك لسدِّه، وهذه الحركة كاشفة ضرورة عن جهة مستغنية مطلقًا، وإلَّا لما استمرَّت أصلًا.

عِندَمَا يَتَوَجَّهُ الفِكرُ لِمُلاحظة المساحة العِلمية والمعرفية داخل سُلطتي الحقيقة والحق، فإنَّه يُدرِكُ تمامًا السعة الهائلة التي يمكنه التحرَّك فيها، ولكنَّها مساحة غير مأمونة، ففيها الهدى وفي قباله الضلال، ومن لا يلتزِم مُؤَمِّنًا من إحدى السلطتين فإنَّه يقع في الضلال ولو بعد حين؛ والسبب افتقار الإنسان إلى ما يحافظ على استقامته الفكرية، وذلك بعد تركُّبه من عقل وشهوة، وهذه الأخيرة واقعة من مختلف جهاتها تحت وطأة الانفعالات النفسية بالظروف المحيطة والمتغيرة والمتشعبة باستمرار.

للأمن من الوقوع في الأخطاء الفكرية، أبدع قدماءُ اليونان قواعِدَ وجدوا فيها القدرة على عِصمَةِ الفِكر من الوقوع في الخطأ إن التزمها، وهي في الواقع ناتجة عن تحليل القضايا المُسلَّمة، كقضية: كلُّ متحقِّقٍ في الخارج فهو معلول لمتحقِّق غيره. في هذه القضية يذهب الفِكرُ إلى تحليل (كُلّ) في المصاديق الممكنة لمدخولها، ثُمَّ يُطَبِّق المحمول على أيٍّ منها متى ما تحقَّقت، فنقول: الحرارةُ مُتحَقِّقةٌ في الخارج، وكانت الكبرى أنَّ كلَّ متحقِّقٍ في الخارج فهو معلول لمتحقِّق غيره، فالنتيجة أنَّ الحرارة المتحَقِّقة في الخارج معلولةٌ لمتحقِّقٍ غيرها. وهذا من قبيل تحليل الأربعة إلى كلِّ أربعة راجعة إلى عملية بين طرفين أو أكثر، فالنتيجة دائمًا موجودةٌ في مقدِّماتها، وهذا هو ما أطلقوا عليه اسم (المنطق).

منشأ المشكلة:

يرى الفِكْرُ تغايرًا بين كلِّ موجودٍ وآخر، فالإنسانُ غير البحر، والبحر غير الجبل، والجبل غير الفرس، وهكذا فإنَّ الموجودات متغايرة بما يدل على تعدُّدِ حقائِقها، ولكنَّها موجودة كلُّها، فهل أنَّ الوجودَ واحِدٌ والموجودَ متعَدِّدٌ؟ أم أنَّ وجود الموجود راجع لأمر آخر بعد القطع بوحدة الوجود؟

هذا السؤالُ مشروعٌ ولا بأس ببحثه، ولكنَّ الإشكال ينشأ عندما يبدأ الفِكرُ بقياسِ الغني مطلقًا على هذه المدركات المحصورة في عالم خاص ما كان وكان!

يُقالُ هكذا:

إذا كان الموجودُ لم يكن، ثُمَّ كان، وإذا كان لا بُدَّ من أن يكون مسبوقًا بغيره وبعدم نفسه، فإنَّه لا بُدَّ أن يُقَالَ بِموجُودٍ غير مسبوق لا بغيره ولا بعدم نفسه؛ وذلك لبطلان التسلسل.

إنَّ الجري في مثل هذا النظر يكون فيه العقلُ حاكِمًا على الحمل والربط بين كلِّ المُدركات الحِسِّية والعقلية الصِرفة مُطلقًا، فيقع في إشكال الخروج على السُلْطَتَين المتقدِّمتين أو إحداهما، ومن هذا الخروج جاءت فِكرةُ تدوين عِلمٍ أُطلِقَ عليه اسم (الفلسفة)، فالفلسفة كعِلم، هي في حقيقتها مجموع المسائل الحاكمة التي انتهى إليها الفِكر بحسب قواه وقدراته الإدراكية، وهي قِوى وقدرات ناقصة قاصرة، حُكِّمَتْ على ما هو أعلى منها.

مِثال:

تَطْرَحُ الفلسفةُ كعلِم قانونين: الأوَّل قانون استحالة صدور أكثر من الواحد عن الواحد، والثاني قانون السنخية بين العلَّةِ والمعلول.

هذان القانونان صحيحان في عالم الحدوث والإمكان، وأمَّا مع الغني المطلق فلا يقال بالصدور بالمعنى الذي يقول به العقل، لا إمكانًا ولا استحالةً، بل ولا يمكنُ البحثُ في مسألةِ الخلق الأوَّل وكيفيته ما لم يتوفَّر العقلُ على إفاداتٍ من إحدى السلطتين.

هذا، ونتيجة لرفض الكثير من علماء الإسلام صدق هذه النظرية على الله سبحانه وتعالى، قال بعضُهم بتحقُّق الصدور، ولا يُسألُ عن الكيفية، فالله تعالى قادِرٌ على كلِّ شيء.

في قبال هذا الرأي طرح الفلاسِفةُ المُسْلِمُون سؤالًا حول السنخية بين الخالق والمخلوق، وهذا ما ينتهي إليه القول بأصل الصدور؛ إذ أنَّ الصادرَ لا بُدَّ وأن يكون من سِنخ المصدر.

أجابوا بأنَّ هذا يصدق على الموجودات في عالم الحدوث والإمكان، وأمَّا عند الحديث عن الخالق جلَّ في علاه، فالأمر راجِعٌ لإرادة الكون، وأمر معرفة ذلك مُمْتَنِعٌ عَنِ الإنسَان بِحُكم مَحْدُودِيته.

أعتقد بورود الخطأ على الفريقين، فالفلاسفة باستقلالهم عن سلطتي الحقِّ والحقيقةِ، وبتوسعتهم لدائرة الاعتبارات الذهنية وجعلها حائط صَدٍّ أمام الكثير من الإشكالات التي ترِدُ على بعض نظرياتهم، وأمَّا الفريق الآخر فبارتفاع درجة التحرُّز من الوقوع في بعض المزالق الملازمة لبعض النظريات المدونة في (عِلم) الفلسفة، وقد أدَّى هذا التحرُّز إلى رفض أيِّ طرحٍ قد تُشَمُّ فيه رائِحَةُ الفلسفة، حتَّى لو استند إلى نصوصٍ قرآنية أو عِتروية، فالتهمة حينها أنَّ فهم هذه النصوص فلسفي، ولا بُدَّ طلبًا للصحة أن يُخلَّصَ ويُعادُ فهمه بعيدًا عن الفلسفة ومصطلحاتها.

ما أراه هو أنَّ التفلسف ما كان ليتعرَّض لمثل هذه العداءات القوية لو أنَّه أُبعِد عن محاولة التدوين كعِلم، وأُبقِيَ كما هو من جملة الأنماط الفكرية الطبيعية التي يخضع نتاجها كغيره لمُنَاقشَاتٍ وأخذٍ ورَدٍّ.

إثارات على طريق النظر:

ينبغي الالتفات إلى استحالة تخلُّص المُدرِك من البُعد الفلسفي في نظره وفكره؛ فالفلسفة كما أسلفنا هي تميُّز النمط الفكري بالدقة في النظر. مِثال:

يبحث الإنسان العادي عن المفاهيم، فيسأل -مثلًا- عن مفهومِ العبادة، وهذا سؤال لا يُجابُ عليه قبل تحديد المقصود من كلمة (مفهوم)، ويذهب العقل المُحقِّق إلى البحث في طرق إثبات الصحة للمفهوم، وينظر في أصل الإدراك وطبيعته، وهل هو التقاط حِسِّي أو أنَّه شيء أبعد من ذلك..

ويستمِرُّ النظر بحثًا عن الرسوخ المعرفي الذي يطلبه الإنسان بشكل طبيعي كلَّما تعلَّم وازداد تحصيله، وللأمنِ من الوقوع في ضلالات الطريق، ضَبطَ العقلُ تعقُّلاتِه بنصوص الثقلين المقدَّسين.

يَتَفَلْسَفُ النَظَرُ طلبًا لوضع كلِّ أمرٍ في محلِّه، وتضيع هذه الغاية بالتزام مسائل فلسفية مدونة كعلم مُحَكَّم؛ فهذا التدوين يحصر التفلسف في الأطر التي قرَّرها مدونو العِلم في سوره، وأيُّ تطوير فمن النادر أن يخرج خروجًا عِلميًا بِنائيًا على السور، وهذا ما جعل متأخري الفلاسفة في حالة من الجمود هي نفسها التي حاربوها أوَّل الأمر.

أُلفِتُ الانتباه إلى أنَّ هذه الورقة المُختصَرة بعيدة كل البعد عن النَفَس الجَدَلي والعقلية الإفحامية، فالغاية منها المساهمة في الدعوى لمراجعات متَّزِنة تبتعد بالطرح عن اختلاق المصادمات بين العلوم والفنون والأطروحات والنظريات، فليس من عِلمٍ ولا فنٍّ إلا وتعرض عليه الأخطاء والنواقص، ولذلك يستمر التأليف في التفسير والفِقه، بل وحتَّى في اللغة وعلومها، وهو استمرار يكشف عن إرادة التصحيح والتكميل، وهذا هو الطبيعي الذي نأمل رواجه بأريحية علمية وازِنَة. وأمَّا رد العلوم بسبب إشكالات ترِدُ على بعض مسائلها، فهذا غير صحيح.

يقومُ (عِلمُ الفلسفة) اليوم على قرابة (1200) مسألة، فلتًناقش مسألة مسألة لنرى ما يؤخذ منها وما يُرد، فإنَّه ليس من المقبول رد المسائل كلها بعد الاختلاف مع بعضها، وربَّما القليل منها، وهكذا في مختلف العلوم بلا فرق.

 

السيد محمَّد علي العلوي

8 رجب 1438 هجرية      

 

 

  

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.